مع اقتراب ذكرى ثورة 23 يوليه اندلع الجدل حولها وحول عبد الناصر على صفحات التواصل الاجتماعى، فى مشهد مكرر يعطى الجميع فرصة للتعبير عما يدور فى نفسه وعن توجهاته.
فى جيلى وفى الأجيال الأكبر منى سناًّ لا يوجد من لا موقف له من الثورة، ومن الأنظمة التى تعاقبت فى مصر، ولا أعرف بالضبط موقف الأجيال التالية، ولن أحاول تخمينه.
أود أن أشير إلى بعض النقاط، ولا شرعية لى إلا كونى مواطنا يخطئ ويصيب وخصص عشرين سنة من عمره لدراسة الناصرية – عشرين سنة تغير فيها رأيى مئات المرات.
أولا كان الملك فاروق حاكما سيئا، والمدح فيه نوع من النكاية بناصر وبدولة يوليو. لا أقول أنه كان شريرًا ولا أنه غبى ولا أنه غير معذور. أقول إنه كان على دراية عميقة بتحديات المرحلة – تحقيق الجلاء والتحديث والخروج من دائرة الجهل والفقر والمرض- وأنه اختار طريقاً لحلها فى أول الأمر، وكان هذا الطريق – التحالف مع أقبح القوى اليمينية الداخلية والمحلية والعالمية- خطرا وغير موفق لا سياسيا لا ثقافيا ولا أخلاقيا. وبعد فشله تفرغ للانتقام ممن تسببوا فيه من المصريين، ولملذاته الشخصية، ولم يحاول لا إصلاح ما يمكن إصلاحه لا بناء قاعدة شعبية له لا بناء دولة ولا حتى التكيف مع مستجدات الوضع المصرى بعد الحرب العالمية الثانية.
ثورة ناصر لم تقتل نظام فاروق بل أزاحت جثته.
ومع ذلك يمكن القول إن أغلب الخطاب المصرى يظلم العصر الملكى ظلما كبيرا، وتفصيل هذا أنه يعظم من قدر تجربتى محمد على الكبير وجمال عبد الناصر، بمعنى أنه يركز على الإيجابيات وهى فعلا كثيرة ويقلل من شأن السلبيات، وبمعنى أنه يرى أنهما دون غيرهما التجربتان الناجحتان فى التاريخ المصرى.
من ناحية أرى أن التجربتين ناجحتان بالفعل، ومن ناحية أخرى علىَّ أن أحذر مما فعلته الذاكرة المصرية بهما، من تحويلهما إلى ملحمة أسطورية معصومة من الخطأ ومن نسب فشلهما المؤقت إلى مؤامرة كونية لقوى شر لم تكن تريد لمصر الخير. ولا تنتبه الذاكرة إلى السلبيات أو إلى التكلفة البشرية الباهظة للمشروعين
ما هو معيار النجاح؟ يمكن القول فى الحالتين إن المشروع أصيب بنكسة كبيرة وأنه بدا فاشلا عند وفاة قائده وحامل رايته، إلا أن ثمار البذور التى تم زرعها كبرت وعاشت ونمت وتطورت، وأن القيم التى واكبت نمو المشروع لم تختف وألهمت أجيالا، وأن أغلب ما نجح فيه المشروع عاش بعد وفاة القائد. لا لم تذهب تضحيات السلف هباء.
وثمة مشاكل أخرى مع ذاكرتنا… أهمها تأرجحها الدائم بين تقديس الملك فاروق – دون أى سبب وجيه، وتسفيه العصر الملكى برمته. وفى هذا ظلم كبير على الملك فؤاد وعلى قوى ثورة 19.
القول بأن الدولة المصرية بنت مشروعى محمد على وجمال عبد الناصر قول دقيق، لكن يجب إنصاف الملك فؤاد ورجال عصره من أنصار وخصوم له والاعتراف بضخامة إنجازاتهم فى ظروف بالغة الصعوبة، نعم فشلوا فى تحقيق الاستقلال التام والجلاء وفى إخراج الكتلة الكبرى من الشعب من دائرة الفقر والمرض والجهل والتبعية للسيد. ولكنهم بنوا نظاما تعليميا جمع بين الأصالة والحداثة، وبنوا الجامعة المصرية وكانت من أرقى المؤسسات العالمية وتعلم فيها جموع من أبناء الوطن والأمة العربية، ونهضوا بالثقافة نهضة لم نشهد مثيلها بعدهم، وقطعوا شوطا كبيرا فى بناء دولة ومنظومة قضائية ونظاما سياسيا يسمح بقدر من التنوع.
الدفاع عن دولة يوليو واجب فى رأيى. وواجب سهل، ولكنه لا يحتاج إلى تسفيه الحقبة الأولى للاستقلال.
- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية