مهما عظمت إنجازات العصر الملكى أيام الملك فؤاد، فإن إنجازات الثورة أعظم وأعمق تأثيرا.
أعلم أن هناك من يرفض رأيى هذا، من ثلاثة منطلقات، أولهم الدفاع عن الملك والوفد، ثانيهم تقديسا للحرية والتعددية ولنجاح هذا العصر فى تأسيس ثقافة مصرية رفيعة معاصرة ألهمت أجيالا، وثالثهم إيمانا منهم بنسبية الأمور. والنسبية تفهم بطريقتين، لا يمكن مقارنة عصر بآخر، ولا توجد معايير للتقييم تكون محل إجماع.
وبعض هذه الحجج أقوى من غيرها، نعم كان العصر الملكى عصر التعددية وعصر وجود نوع من أنواع الحياة الحزبية وعصر الثقافة الرفيعة، ونعم لا توجد معايير للتقييم مجمع عليها.
ولذلك أحدد حيثيات رأيى، معاييرى أنا هى نسبة المصريين التى استفادت من مميزات ومقومات كل عصر، الملكى والجمهوري، وجود أم عدم وجود طبقة وسطى قوية وأحوالها، أحوال الفقراء وفرصهم للهروب من الجحيم، التنمية البشرية، تحديث البنية التحتية والقاعدة الصناعية، نيل الاستقلال والسيادة الوطنية والحرية فى اتخاذ القرار.
ويجب التنبيه: ما يبدو لنا طبيعيا اليوم – أننا مستقلون مثلا- لم يكن كذلك، ونحن مدينون له لثورة يوليه.
لا يستطيع جاد أو منصف إنكار كون المقارنة وفقا لهذه المعايير فى صالح دولة يوليه، ما يمكن قوله من نقد أنه كان يمكن تفادى أو التقليل من الثمن الذى دفعناه لتحقيق هذا، أو أنه كان من الممكن تحقيق نتائج أفضل بنفس الكلفة، أو أن التنمية لا تبرر بعض الجرائم التى قلل من شأنها الناصريون ووصفوها بالتجاوزات، أو أن دولة يوليه أدخلتنا فى ملفات معينة فى «حارة سد» لم ننجح إلى الآن فى الخروج منها، أو أنها لعبت دورا فى ترسيخ ثقافة الخوف.
ويمكن طبعا مناقشة كارثة 67… ليس بمنطق من المسؤول ناصر أم عامر…على أهمية تحديد مسؤوليات كل منهما… إلا أن تبرئة ناصر غير ممكنة، فهو دخل مواجهة وهو عالم تماما لخطرها، يعلم أن ثلث الجيش فى اليمن ويعلم أن الاتحاد السوفييتى لم يمدنا بدفاع جوى قادر.
نناقش 67 بمنطق… هل مسلمات الناصرية فى السياسة الخارجية، وآليات عمل الدولة القائمة على الجمع بين المركزية ووجود مراكز قوية وعدم تداول المعلومات وتفضيل الولاء، وديناميكية الزعامة الكاريزمية الدافعة إلى المواقف البطولية المستمرة، وخيارات الدولة الطبقية والثقافية والاقتصادية، هل حتم كل هذا الدخول فى مواجهة خاسرة أم كان من الممكن تفاديها.
ما أقصده أنه من الواجب مناقشة ماذا فعلنا بثورة يوليه وما فعلته بنا مناقشة جادة لنفهم نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا ولنحذر من ميلنا إلى ارتكاب بعض الأخطاء… ولنحذر من الحذر المبالغ فيه الناتج عن ذاكرة 67. ومناقشة الثورة هى حقها علينا. نحن أبناؤها وأبناء ناصر والسادات ومبارك. من ناحية أثر الثلاثة فينا ولعبوا دورا فى تشكيل وجداننا ولا نستطيع الهروب مما فعلوه ، ومن ناحية نستطيع أن نقول أنه فى مقدورنا أن نفضل بينهم ونختار التأثير الذى نحبذه. وطبعا من الممكن رفضهم كلهم جملة وتفصيلا.
ما هو غير مقبول – أخلاقيا وثقافيا- هو إدمان الكلام العبيط، كم سمعت فى الثمانينيات وقرأت لمن يصر على تفسير ما حدث بادعاء كاذب وهو عمالة الضباط الأحرار لواشنطن، وبالقول كذبا أن أم ناصر يهودية، وبنسب كل شر إليه، وبالقول أنه تعمد الإضرار.
وكم سمعت كلاما من عينة أن التعليم المجانى سمح برفع رأس من لا يجوز له هذا، وأن تحرير المرأة كان غرضه الوحيد إذلال الرجال، وأن الغرض الوحيد من الثورة تمكين العبد من زواج بنت سيده!!! ندمن العته ثم نستغرب من سلطوية الدولة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية