فى أوقات الأزمات، وعند مفترق الطرق، تسود حالة من الضبابية، تغشى العقول، وتعجز البصر والبصيرة عن القراءة السليمة، لاتجاهات النجاة على الخريطة أو على مؤشر البوصلة.
ولست بحاجة إلى الكثير من الحجة أو المنطق أو لحشد البراهين، للاستدلال على ما نمر به حاليا في هذا الوطن من مناخ الأزمة.
أزمة تفقد الجميع الرؤية، وتجعلهم غير قادرين على الحركة، فيكفون عن السير، أو يرتجلون الرحيل للحظات فى هذا الطريق أو ذاك، سرعان ما يتخبطون بعدها، فيقفلون راجعين مؤثرين السلامة، خوفا من مجهول لا يتبينون ملامحه.
ولعلنى لا أكون مبالغا، إذا ما تماديت في الزعم، بأنه حتى في أسوأ عصور الانحطاط، فإن الكثيرن قد يكونون أكثر راحة، و لن أقول سعادة، نظرا لوضوح الصورة مهما كانت داكنة، فعلى الأقل سيكون بمقدروهم التألف معها، ومسايرتها وخلق نمط من القيم والسلول والعادات، يتكيفون به مع الواقع الجلى مهما كانت مرارته.
فإذا كان هذا الواقع، يرزح تحت وطأة الفساد والنفاق والمحسوبية، فسيتكيف الناس، وسيطلقون على الفساد «شطارة»، ويسمون النفاق ذكاء اجتماعيا، والمحسوبية «أرزاق».
إما إذا انعدمت الرؤية، فسيرتبكون، فلا يعرف المرء هل يهاجم رئيسه لأنه من مخلفات العصر القديم، أم ينافقه لأن نجمه لم يأفل بعد، هل يرشى ويرتشى، هل يستمر فى التأييد والمبايعة بالروح بالدم، أم يطلق العنان لما يعتمر وضاق به صدره على مدار السنين العجاف.
وربما يكون الوسط الصحفي، بكل عناصره البشرية والمؤسسية والتشريعية، خير نموذج على مرحلة الأزمة السابقة. ليس فقط على مستوى الأوضاع والممارسات والسلوكيات، إنما أيضا، وهذا الأهم من وجهة نظري، على مستوى ما يقدمه أبناء المهنة من حلول، لإصلاح أوضاع المهنة وأحوالها وأحوال مؤسساتها المتردية.
والواقع أنني أكاد أفقد ما تبقى لي من بعض العقل، وأنا استمع وأقرأ ما يطرحه الكثير من الزملاء، حول تصوراتهم لطبيعة المشاكل التي تواجهها مؤسسة الصحافة المصرية.
ناهيك عما يتم طرحه من حلول لها، باتت من كثرة تردديها، بمثابة مسلمات لا بديل لها، لا تقبل النقد أو المراجعة.
على سبيل المثال، يختزل الكثير من الزملاء قضية الاصلاح الصحفي، فى مناقشة كيفية إصلاح الموسسات الصحفية الحكومية -الصحف القومية-، وليس في الأوضاع والشروط، التي تتحكم فى صناعة الصحافة ككل.
رغم أن هذه الأوضاع، تتضمن من السلبيات، ما هو كفيل بإعاقة تطور صناعة الصحافة بنوعيها، صحافة القطاع العام -ان جاز التعبير- والقطاع الخاص.
وعلى سبيل المثال أيضا وليس الحصر، هناك كثير من العراقيل القانونية وغير القانونية، تقف أمام حرية إصدار الصحف.
علاوة على ذلك، فإن البيئة التشريعية الحاكمة لصناعة الصحافة المصرية، تفرض العديد من القيود، التى تكبل انطلاق المؤسسات الصحفية، من بينها حظر تملك الصحفيين للصحف والمجلات، وكذلك الشخصيات الاعتبارية كشركات الاستثمار والبنوك، كما تضع حدا أقصى، لنسبة التملك ذاتها يبلغ .%10
كذلك تحظر الملكية على غير المصريين، بحجة منع تسلل رأس المال الأجنبي، مما يغلق الباب أمام الفرص الهائلة، التى قد يتيحها التعاون مع مستثمرين عرب، تستفيد منها، على سبيل المثال، كافة الصناعات والقطاعات الأخرى، كما تغلق الباب أمام عمليات الاستحواذ والأندماج، للدخول إلى الاسواق المجاورة.
ليس هذا فحسب، وإنما تفرض أيضا على الصحف ضريبة دمغة نسبية، تبلغ 63 ٪، تبلتع جزء كبيرا من إيراداتها الإعلانية، يصل إلى حوالى 5.62 ٪.
كما تفرض القوانين، وغيرها من الاعتبارات، أوضاعاً احتكارية، فيما يتعلق بالكثير من عناصر الصناعة، كالتوزيع والطباعة بل والموارد البشرية نفسها، نظرا لما تتميع به المؤسسات الصحفية الرسمية «الخاسرة» -في تناقض لا تجده سوى في مصر المحروسة-، من قدرة على جذب الصحفيين بسبب، سهولة الحصول من خلالها على عضوية النقابة.
إن اختزال مسألة الاصلاح الصحفي في اصلاح الصحف الحكومية، يؤدى في نهاية المطاف، ليس فقط إلى تجاهل كل ما سبق من قيود، ينبغى إزالتها لانعاش الصناعة، وإنما -وهذا هو الأخطر- إلى اقتصار مناقشات الاصلاح على استبدال قيادات المؤسسات الصحفية الحكومية، وتغيير معايير إختيار هذه القيادات.
وليت ما يقترحه الزملاء من معايير، يتضمن الكفاءة و النزاهة والتفاني في العمل، إلا أن مايبعث على الدهشة حقا، هو أن يخرج البعض منهم، في مؤتمر عقد مؤخرا، لمناقشة أوضاع الصحافة المصرية، بتوصية يطالب فيها بتعيين رؤساء التحرير ومجالس الإدارات بالإنتخاب!، في رد فعل «نفسي» واضح، على تكرار قيام الحكرمة، بتعيين وفرض أشخاص بعينهم، تضمن ولاءهم في تلك المواقع، بغض النظر عن الاعتبارات الموضوعية.
ولست بحاجة إلى توضيح، أن أكثر الصحفيين شعبية داخل المؤسسة، ليس هو بالضرورة، القادرة على إداراتها أو رئاسة تحريرها.
بل أن خضوع هذه المناصب للانتخاب، يفقد من يشغلها الكثير من قدراته، التي سيوجهها بالضرورة إلى محاولة استرضاء الزملا،ء الذين تعودوا على أوضاع معينة، يصعب أن تستمر، إذا ما كانت هناك رغبة حقيقة في الإصلاح.
إن قرار تعيين رئيس مجلس الادارة والعضو المنتدب في أى مؤسسة -صحفية أوغير صحفية-، هو قرار الملاك، في حين إن من حق العضو المنتدب، اختيار الكوادر ،التي يعتقد فى كفاءتها وقدرنها على تحقيق أهداف خطته في النهوض بالمؤسسة، التي سيحاسبه الملاك على إنجازها.
وبناء عليه، فإن بقاء العضو المنتدب أو رئيس التحرير في منصبيهما من عدمه، ينبغى أن يتوقف -و يتوقف فقط – على ما قاما به من أداء.
وربما أكون أثر ميلا، إلى أن الطريق إلى إصلاح الصحافة المصرية، لابد وأن يبدأ من خارج المؤسسات الحكومية وليس من داخلها، وذلك عبر إزالة كافة القيود على حرية إصدار الصحف وأشكال ملكيتها، وإزالة الأوضاع الاحتكارية، وفتح الباب أمام المنافسة المتكافئة.
حينها فقط، سيضطر المالك الحكومي رغما عنه، إلى التدقيق في اختيار قيادات المؤسسات الصحفية، وذلك قبل أن تتحول كلها -بفعل المنافسة- إلى ما يشبه جريدة مايو.