منذ أن أطلت رؤوسنا من أرحام أمهاتنا، ونحن نكاد لا نسلم من حكام وأمثال ومواعظ، يقرعنا بها كل من هب ودب، أو حتى كل من سما وعلا شأنه، يستهدف بها «الجميع» إصلاح وتهذيب وتربية «الجميع»!
أحيانًا تتخيل من فرط المبالغة فى «التهذيب»، أن لسان الآخرين قد تحول إلى ما يشبه غلاف الكراس المدرسى القديم،-الذى يتآسى الكثيرون على اختفائه كلما سنحت الفرصة- يعج بالنصائح التربوية والصحية الرشيدة.
اغسل يديك قبل الأكل وبعده….. احذر من تناول الطعام والحلوى غير المغلفة من الباعة الجائلين….. الصغير يحترم الكبير، والكبير يعطف على الصغير!
والحقيقة أنه ينبغى على أن أعترف، أن هذه الحكمة الأخيرة تحديدا، لطالما أرقتنى فى صحوتى ومنامي، لشدة ما تطرحه تطبيقاتها فى أرض الواقع من تساؤلات.
تطبيقات كانت دائما ما تقهر وتصادر حرية الصغير- أى صغير صبيا أو مراهقا أو موظفا أو مرؤساً أو أى مواطن – فى التعبير عن رأيه أو موقفه أو مشاعره، بحجة انتهاكها لهالة احترام مزعومة، لكبير قد لا يكون كبيرا على الإطلاق!
الاحترام يمنعك من المصارحة والمجاهرة، خوفا من أن يوقعك الكبير فى فخ التطاول على ذاته المصون…. أما العطف، فيمنح صاحبه درجة أولوية، تتيح له أن يكون عطوفا تفضلا، وتجبره أحيانا – لاحظ تجبره – على أن يتعطف بتأديب الآخر، حتى لو أتخذ ذلك صورة فعل مادى همجي.
وخذ عندك، مسئول يصفع مواطنا، ثم يبرر ذلك بأنه فى مثل سن والده، وأنه ما فعل ذلك سوى حرصا على إصلاح حال هذا المواطن «الصغير»، ونجد من يوافقه على ذلك!
شيوخ تتهجم على صحفيين بالسب والقذف وبالأيدى، لا لشيء سوى أنهم تجرؤا، وأبدوا ملحوظات حول بعض التناقضات فى أقوالهم، ونرى من يهلل لحرصهم على صرامتهم وهيبتهم!
رئيس يركل بقدميه الكريمتين مرؤوسه فى العمل، بحجة أنه قد أفقده صوابه أو أنه يؤدبه، وتكاد أن تجن وأنت تشاهد من يلتمس له العذر!
فالمجتمعات الديمقراطية تقوم فى الأساس على احترام حقوق المواطنة دون تمييز على أساس عرقى أو دينى أو جنسى أو طبقى أو حتى عائلى، أى تساوى الجميع فى الحقوق والواجبات، دون أن يستطيع أحد أن يدعي لنفسه وضعاً أو صفة تؤهله لتأديب أو «رفس الآخرين».
والمشكلة أن الشعار التأديبى «الاحترام مقابل العطف» لا ينتج عنه بعدا مبدئيا مرفوضا – من وجهة نظرنا – فحسب، وأنما يثمر أيضا جانبا عمليا نزعم أنه بالغ الخطورة، فتلقى القهر وتبريره، إما أن يؤدى إلى انفجار خارجي، غالبا لا يحدث لضيق ذات اليد، أو أن يفرز أنماطا من النفاق – لا نحتاج إلى التدليل على وجودها – وهكذا تتوالى دائرة التداعيات الجهنمية للحالة «النفاقية» العامة من سلبية فساد ومحسوبية وفقدان الثقة بالنفس والمجتمع والمستقبل.
وهو الأمر الذى يدفعنى فى النهاية، للإفصاح عن تساؤل طالما اعتمر بداخلي، منذ أن كنت صغيرا فى عمر الزهور ،أرغب فى كتابته على ظهر غلاف الكراس المدرسى، إلى أن صرت «صغيرا» من نوع ثان وثالث ورابع وهو:
لماذا لا يحترم الكبير والصغير بعضهما البعض؟ أليس ذلك أفضل من أن يحترم فقط الصغير الكبير، فيكون نصيبه منه القليل من العطف والكثير من الصفع والركل و……. وعدم الاحترام!
حازم شريف
9:09 ص, الأحد, 9 مايو 04
حازم شريف
9:09 ص, الأحد, 9 مايو 04
End of current post