ومازالت أتلصص عليها حتى اليوم!

ومازالت أتلصص عليها حتى اليوم!
حازم شريف

حازم شريف

11:29 ص, الأحد, 18 يناير 04

كانت فى عجلة من أمرها.
لم تستوقفها نظرة متفحصة، أطلقتها مقلتان معجبتان متلصصتان فى إصرار يشوبه خجل، أو خجل يتلبسه الاصرار، أغلب الظن أنها لم تلتفت على الاطلاق إلى هذين الجاسوسين المستديرين المتربصين فى وضح النهار.
أدارت مفتاح السيارة، وانطلقت بسرعة الصاروخ، عجزت عيناى عن متابعتها بعد أن أخترقت مرمى البصر، أغلقتهما حركة لا إرادية، فانتقل تلقائياً عبء الملاحقة إلى الخيال.
فتحت باب شقتها الصغيرة، ثم نافذة غرفتها المطلة على شاطئ النهر، فتأرجحت ستائرها بفعل نسمات الهواء المتقلبة، وتوتر أنفاسى المتلصصة المخيمة على المكان.
استلقت فى فراشها، أسندت ظهرها إلى مخدتها الصغيرة المفضلة، وأشعلت سيجارة، أطبقت عليها بشفتين ناعمتين كالحرير حادتين كنصل السكين.. التقطت ألبوم صورها الخاص من على المقعد المجاور، وألقت به فى عفوية على فخذيها الممدودين فى براءة الطفل الصغير.
خفت قبضة شفتيها تدريجياً على السيجارة المتصاعدة الوهج، وهى تتصفح دفتر ذكرياتها المصور، تتوسط أبويها، تعانف أخاها الأكبر وقد بسط ذراعيه القويتين بإحكام حول خصرها النحيل، تحوطها ضفائر زميلاتها فى فناء المدرسة الفسيح.
مازالت تتذكر ومازلت أتلصص.
نعومة الذكريات تنساب فى تتابع رقيق «يبخرها» دخان السيجارة المتصاعد فى هدوء، وكأنه دخان «مبخرة» تستعين بها فى «رقية» حالة من الاسترخاء والسعادة الداخلية، لم تشعر بها منذ زمن بعيد.
أيام الدراسة الأولي، الطفولة، المراهقة، الشباب، الأصدقاء، الضحك، المرح، الانطلاق.. و…. وكل صفات ومظاهر اليوتوبيا الجميلة.
كم كان أبواها حنونين، وأخوها عطوفا، وصديقاتها محببات محبات.
أشعلت سيجارة أخرى من فم سيجارتها الأولي، سحبت قدميها إلى الخلف، فارتفع الألبوم على فخذيها حتى كادت تحتضنه، كما تعودت أن تفعل مع كتبها المدرسية أثناء رحلتى الذهاب والعودة اليومية على مدار عدة سنوات، تفضل ألا تتذكر عددها على وجه التحديد.
قلبت صفحة أخرى وصفحات.. ودون أن تشعر سرت بوادر التوتر فى أوصالها، عدة صفعات تلقتها من الأب الحنون هوت فجأة على صدغها، وكأنها هوت اليوم وليست منذ زمن بعيد، تارة مع قدوم الشهادة المدرسية مرصعة بدوائر الرسوم الحمراء، وأخرى فى مناسبة عودتها متأخرة من نزهة ليلية متأخرة ادعت أنها مع صديقتها المفضلة، وثالثة- لم تكن الأخيرة- جابه بها الأب الرؤوم – بمباركة الأم الخائفة على مصير أبنتها-، رفضها لعريس عاد لتوه من اعارة خليجية، وقد أنتفخت جيوبه، وتقوس «كرشه» فى استدارة مفلطحة، كاستدارة البطيخة غير المنتظمة.
زاد توترها، فقبضت مرة أخرى على جسد سيجارتها حتى كادت تعتصرها وتسحقها بشفتيها المتيبستين.
علقة ساخنة جاد بها عليها أخوها الأكبر بعد أن لمحها تجلس على انفراد مع شاب غريب، لم تكن تحس أنه غريب، كانت تحلق معه فى السماء، تلمس النجوم بأطراف أصابعها، ثم تعاود الكرة من جديد، كانت تشعر معه أنها زهرة تتفتح، تتخطى الحواجز تنسل من بين القضبان فى سلاسة، وتهيم بحرية فى عالم جديد، كل هذا بددته أصداء معركة حربية، استخدم فيها أخوها، كل ما طالته يداه ورجلاه من أدوات، وليته اكتفى بتدمير كل هذا وحسب، وإنما ظل لعدة أشهر يهددها ويتوعدها، ويبتز ما لديها من مصروف ضئيل، كيلا يبوح بسرها للأب الرؤوم.
بلغ توترها الذروة، زادت حدة قبضتها على سيجارتها، انتابها الرعب لحقيقة أوشكت أن تدركها.. هل كانت الذكريات الجميلة مجرد صورة ذهنية، ترسمها بإرادتها لأزمان عادية لا تختلف كثيراً عما هى عليه اليوم؟
انتفضت فى رفض، تفتت السيجارة فى حلقها، وطار ألبومها الحبيب فى الهواء، وتناثرت أشلاء صوره حتى غطت المكان، صرخت من أعماقها.. فاستيقظت من نومى مذعوراً مثلها!
كانت تجلس إلى جوارى تنتفض فى مخدعنا المشترك، لم تكن النافذة تشرف على النهر، وإنما على جدران أسمنتية، ولم تكن مفتوحة، ولا الستائر تحركها نسائم الهواء، ولم تكن هى قد اشترت يوكما علبة سجائر من الأساس، رمقتها في غضب،فاحتبست أنفاسها، وتظاهرت بالخلود إلى النوم فى حركة ميكانيكية لا إرادية، أحسست بالزهو والفخر والراحة، وألقيت بجسدي بجوارها، فاصطدم «كرشى» غير متنظم الاستدارة، بجسدها المتكور فى صمت.