وفاة المواطن «المحتمل».. عبدالنبى شحاتة

وفاة المواطن «المحتمل».. عبدالنبى شحاتة
حازم شريف

حازم شريف

10:44 ص, الأحد, 18 مايو 14

حازم شريف :

على مقعد خشبى متهالك اقترضه بصعوبة من صبحى عامل البوفيه، جلس لطفى سعيد، يجاهد قسوة الحر وحدة الملل، يترقب الوافدين، على مقر المجالس الطبية، جهة توقيع الكشف الطبى على راغبى الترشح لرئاسة الجمهورية.

مضت خمسة أيام منذ أن استدعاه لمكتبه خميس مصباح مدير تحرير الجريدة التى يعمل بها، ليسند إليه هذه المهمة. لم يكن متحمساً فى البداية، انتصب خميس كعادته عندما يشرع فى التدليس، لبيع الوهم لأمثاله من صغار المحررين. أشهر سبابته فى وجهه، كضابط شرطة مقهور بنقطة بوليس نائية، يستأسد على لص ضبطه متلبسا بسرقة بيضتين:

أترفض تغطية الحدث الأهم فى البلاد؟ دورك فى فريق العمل هو الأهم والأكثر تشويقاً وإثارة. تصور يا بجم، كم قصة سياسية وإنسانية، بإمكانك التقاطها من موقع الحدث، من بين المرشحين المحتملين؟ اثنان منهم على الاكثر يمتلكان مقومات التنافس. الباقون من المهاويس، وراغبى الشهرة، وبعضهم حتى من المختلين عقليا، كما سيثبت حتماً الكشف الطبى.. كن كالصائغ المتمرس، قادراً على اكتشاف الجواهر الثمينة النادرة وسط أكوام الحجارة.

خمسة أيام ولم يتقدم أحد، وكلما زاد ضجره لعن خميس ألف مرة.

حتى اليوم الثانى الذى شهد تقدم المرشح الكبير لإجراء الكشف الطبى، زاده حنقاً وغلاً، جاء محاطاً بالحراس، الذين منعوا الاقتراب وحرموا التصوير، فيما عدا ثلة صحفيين تم اختيارهم بعناية، ضمهم الوفد المرافق، من بينهم المحرر العسكرى بجريدته!

… آه يا خميس الكلب.. هكذا هتف لطفى بصوت مدو يغلفه الألم، وجسده النحيل يطير فى الهواء، قبل أن يرتطم بالحائط الجانبى لمدخل المقر، إثر دفعة تكفلت بها فخذ ثور، متنكرة فى هيئة ذراع بودى جارد عملاق، أدى عمله بصرامة، حين سعى الصحفى الطموح لمجرد الاقتراب من الموكب.

■ ■ ■ ■

ودعته زوجته هانم من على باب شقتهما المتواضعة: خلى بالك من نفسك والنبى يا عبدالنبى، وياريت لو تصرف نظر عن الموضوع ده، احنا مش قده، ولو كان على التحاليل، ممكن نعمل جمعية كبيرة، ونخلى الست أم محمد تقبضنا الأول.

نظر إليها فى أسى، واستدار مغادراً فى يأس من هو مجبور على التعلق بإبرة لينجو من الغرق، محتضناً مظروفاً أبيض، حشد فيه ما جمعه من أوراق على مدار الأيام الماضية… شهادة ميلاد تثبت مولده عام 1972، ومستند التخرج بتقدير مقبول من كلية آداب قسم اجتماع، وصورة البطاقة و4 صور شخصية.

الاسم: عبدالنبى شحاتة محمد. الحالة الاجتماعية:متزوج ويعول طفلة واحدة إسراء، عمرها خمس سنوات. الوظيفة: موظف إدارى بعيادة الدكتور جورج صليب متى لأمراض النساء. محل العمل والسكن: الألف مسكن.

هل تلائم هذه البيانات والمؤهلات المدونة فى الأوراق، سيرة ذاتية يمكن أن يعتد بها، لمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية؟ تساءل عبدالنبى وهو فى طريقه سيراً على الأقدام من منزله إلى موقف الميكروباص، إنها تكفيه بالكاد كى يعيش، كمواطن محتمل «بوتنشيال مواطن» كما يتندر عليه أحياناً دكتور جورج، لا كمواطن كامل الحقوق والواجبات.

انتهى منذ عام واحد فقط من تسديد آخر دفعة من مديونيات زواجه منذ نحو ستة أعوام، ولولا تكفل حماه بمصروفات الولادة القيصرية لابنته، وشبكة هانم المتواضعة بغرفة نومها، لكان مديوناً بمبلغ معتبر حتى اليوم.

خمسمائة جنيه قبل خصم التأمينات، هى كل قيمة راتب عبدالنبى الشهرى- حتى الحكومة التى لا ترحم تترفع عن خصم أى ضرائب على مثل هذا المبلغ الزهيد – يرتفع مع إكراميات النسوة المترددات على العيادة ليتجاوز بالكاد الألف جنيه.

كان يمكن أن تتضاعف الاكراميات، ما لم تنتشر وتسود بين سكان المنطقة، فتوى الشيخ عبدالتواب جاره وزميل دراسته من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية، القاضية بتحريم كشف المرأة لعوراتها أمام الطبيب بوصفه رجلاً أجنبياً، فما بالك لو كان هذا الأجنبى قبطيا!

لو كان القدر قد انتقى سلاحين لتعذيب واضطهاد عبدالنبى فى الحياة الدنيا، لكان الفقر هو الأول، والثانى بكل تأكيد هوالشيخ عبدالتواب وفتاواه. فهو مبدئيا يحرم اسمه، ويستحثه كلما التقاه أن يغيره رسمياً فى السجل المدنى. ويحرم عمله فى عيادة الدكتور جورج ويدعوه بتبجح المقتدر الميسور، لتركها والبحث عن عمل آخر يجنى منه المال الحلال، بنفس الهمة والنطاعة التى يؤنبه بها، لعدم إجباره زوجته هانم على ارتداء النقاب بدلا من الخمار، ولخروجه فى نزهة بائسة على كورنيش ماسبيرو مع أسرته الصغيرة للاحتفال بعيد شم النسيم، ولاضطراره الإجبارى لتنظيم النسل، بحكم ضيق ذات اليد، ولاعتياده التلفظ بكلمات الشكر، عوضاً عن عبارة «جزاك الله خيرا».

«خير!!… أى خير يمكن أن يأتى من ورائك يا عبدالتواب.. سامحك الله».. همس عبدالنبى لنفسه، وهو يهم بركوبه الميكروباص فى طريقه لمدينة نصر مقر اللجان الطبية، جهة توقيع الكشف الطبى على عازمى الترشح لمنصب الرئيس.

■ ■ ■ ■

بعد أشهر قليلة من الزواج، نصحه الدكتور جورج باجراء كشف طبى شامل، عندما بدأت تهاجمه على استحياء نوبات صداع، تواترت النوبات بمرور الوقت، يصاحبها تكسير فى جسده السمين المترهل المنهك أصلا، وتكررت نصيحة الدكتور.

بات الأمر يدعو للقلق، فى العام الأخير، حين تزامن مع النوبات والتكسير، تراجع ملحوظ فى الوزن، رغم حرصه على زيادة ما يلتهمه يوميا من الخبز والفول والباذنجان المقلى، والكشرى… متى استطاع إليه سبيلا!

المستشفيات الحكومية لا توفر خدمة الكشف الطبى الشامل لمرتاديها المقيدين أوتوماتيكيا فى جداول التأمين الصحى الرسمية. يتطلب اجراؤه فى المستشفيات الخاصة فى المتوسط ثلاثة آلاف جنيه، لم يتوافر ولا حتى نصفها قط دفعة واحدة لعبدالنبى، على مدار خمس سنوات.

حين عاد لمنزله قبل نحو أسبوعين، مصطحبا جريدة حكومية يجلبها جورج يوميا لعيادته، ونادراً ما يقرأها.. التقطت عيناه عبارة «كشف طبى شامل»، ضمن المصوغات الواجب توافرها، فى قبول مرشحى الرئاسة.

كشف شامل تجريه لجنة من الأطباء! كانت إسراء تتدلل بين ساقيه، تسعى للفت انتباهه، بإزاحة أوراق الجريدة التى تعترض مسار قبلتها المعتادة، عندما خفضها لمستوى لا يحجب الرؤية، وأطل من فوقها على وحيدته متأملا. لولا هذه البسمة البريئة المتحركة على قدمين غضتين، لما ارعبته أبدا الهواجس بشأن حالته الصحية، بل ربما استسلم فى سكينة لما تخيل فى لحظات حيرة انه موت بطىء، واستقبل فى تبلد فكرة زواله تدريجيا مع كل كيلو جرام يخسره من جسده.

حين توالت عليه نوبات الصداع، تمنى أن يكون نحيفاً، ظنَّا منه أن لوزنه الزائد ضلعاً فى معاناته، لكن حين لم ينحسر الصداع مع تراجع ما يشغله جسمه من حيز، تملكه يقين أن الصداع وما يشعر به من تكسير وتراخٍ يسرى فى عظامه وعضلاته وشحمه ولحمه، وفقدان الوزن… أعراضاً للمرض، لا سبب فيه…. تفحص وجه إسراء مبتسماً… كان قد اتخذ القرار!

■ ■ ■ ■

من أمام مقر اللجان الطبية حيثما أراد أن يكسر رتابة المكوث داخله، مفتشاً بين المارة عن مرشح محتمل… لاح له ظل أسود مميز يقترب من بعيد، راح يراقبه وهو يكبر فى بطء مقتربا، حتى دنا منه: أليس هذه مقر اللجان الطبية؟

تفحص لطفى سعيد الشبح الماثل فى مواجهته. رجل أربعينى، قيدت حلة سوداء يلوذ بها، بقايا سمنة بدا من شحوب وجهه، أنها قد تراجعت حديثاً. يكسو عينيه وميض أمل، يسعى لوأده فى شراسة حزناً، مستوطناً بهما منذ زمن بعيد، تجاعيد قسماته وشعره الرمادى، لا يعكسان عمره، بقدر ما يعبران عما ينوء تحته من أحمال.

أنا لطفى سعيد صحفى بجريدة «الجمهور»… هل أتيت لتتقدم بأوراق احد المرشحين؟

امتقع وجه عبدالنبى، ليزداد اصفراراً وشحوباً، خرجت كلماته مرتعشة مخنوقة: لا، أنا عبدالنبى شحاتة.. جئت.. كى أرشح نفسى رئيساً للجمهورية.

وكأن أدرينالين العالم قد انبعث فجأة فى عروق لطفى سعيد. ماسورة أفكار متدفقة لاهثة لا تتوقف، تكاد تفجر رأسه من فرط تدافعها. ها هى قصته التى بشره بها العبقرى خميس مصباح. على مدار أيام صب عليه لعناته، ولكنه تراءى له فى هذه اللحظة معلماً جليلاً للصحافة، ولكن حتى هذا الأستاذ الملهم لابد أنه لم يتخيل قط، أن تصل الوجبة لهذه الدسامة….. مأساة حقيقية تتحرك على قدمين، جثة لا تقوى على الوقوف، تسعى للرئاسة، حتماً أنه مخبول، أو على أقل تقدير مصاب بداء العظمة، أو شخصية نرجسية هيستيرية، تبالغ إلى حد الجنون فى تقديرها لذاتها، ماكينة لصناعة الوهم والأكاذيب وتصديقها قبل أن تسعى لتصديرها للجماهير.

هيا أيتها المنحة الربانية…. تحدثى.. أخبرنى عن خطتك اللوذعية لحل مشاكل مصر فى أقل من عام؟ هل لديك أنت أيضاً اختراع، يعالج شلل الأطفال ويحوله لصباع محشى طافيا بمجرى الدم؟ او يعيد للضرير بصره بواسطة إيريال يسلطه عليه؟ أو يحيى الموتى من سباتهم الأبدى العميق؟ تكلم أيها الدجال المنتحل للاستكانة، عن شروطك للتنازل أو التحالف مع المرشح الكبير؟ هل يكفيك أن يعد بتبنى برنامجك وتنفيذ اختراعك، ام تطمح لمنصب نائب الرئيس؟!

استفاق لطفى من تحليقه فى سماء المجد بتفاصيل قصته المرتقبة.. على صوت نحيب يتصاعد، بعدما انهار المرشح المحتمل للرئاسة أو على وجه الدقة المرشح المحتمل لعنوان الصفحة الأولى الرئيسى، وانخرط فى بكاء عنيف.

■ ■ ■ ■

لا حول ولا قوة الا بالله….. تمتم لطفى فى أسى مذهولا، عقب أن صارحه عبدالنبى بكلمات متقطعة، يعتصرها- فلا تكاد تسمع- الخجل، بحقيقة الظروف التى دعته للوقوف فى تلك اللحظة فى آخر مكان كان يمكن أن يتخيل تواجده فيه.. وزاد الأمر عبسية وكآبة، ما أخبره به لطفى نفسه، بأن إجراء الكشف الطبى الكامل على المرشحين، ليس مجانياً أو شبه مجانى كما كان يظن، وإنما يقابله دفع رسوم تبلغ قيمتها ستة آلاف جنيه، بالاضافة لنحو 2500 جنيه أخرى فى المستشفى عند إجراء التحاليل والإشاعات المطلوبة… ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه.. اعادت الحدوتة بأسرها إلى الصفر، بل إلى ما قبل الصفر.. فكل المطلوب اصلا لاجراء الكشف بعيدا عن تعقيدات لعبة الانتخابات.. هو ثلاثة آلاف جنيه!!

لدقائق.. استبد بلطفى خليط من الحزن والإحباط، لم يستطع أن يحدد بدقة اذا ما كان مصدره هول ما سمعه من مأساة، أم ضياع انفراده الذى بات واضحا انه على وشك التبخر، قبل أن تلمع عيناه فجأة، ويهتف فى عبدالنبى: انت هتعمل الكشف الطبى وهتطمن على صحتك وعلى مستقبل إسراء.. وكمان هتقدم ورقك.. ومين عارف يمكن تبقى الرئيس القادم!!

اطلق لطفى بتصنع واضحٍ ضحكةً مجلجلة فى حين لم يستطع عبدالنبى مقاومة ابتسامة أمل خفيفة، قاطعت سيل دموعه الساخنة.

■ ■ ■ ■

كان لطفى قد قرر اللجوء لصديقه الحاج رشوان العتال رجل الأعمال.

تعرف عليه عقب التحاقه بالجريدة قبل نحو عامين، كأحد معاونى خميس فى صفحة أسبوعية للحالات الانسانية. يجلبون الحالات لخميس، ويطرقون بمساعدته ابواب الأثرياء من محبى فعل الخير للتطهر. سمع عن رشوان أساطير من الفساد واستخدام النفوذ والرشوة والمحسوبية، ولكنه تشكك فى ذلك كله عندما صافحه وجهه البشوش فى لقائهم الأول، ثم تناساه تماماً كأنه لم يكن، مع تدفق إحسانه على الفقراء والمساكين، فى كرم تعززت به فرص لطفى فى التعيين بالجريدة، وخميس فى الترقى لمنصب مدير التحرير.

لم يخذله مرة واحدة، يدفع دائماً دون أن يسأل أو يتابع مصير ما تبرع به وكيف تم انفاقه. يبدو مستمتعاً استمتاعاً فطرياً، برسم صورة المحسن الساذج، الورع الذى يلح دوما على عدم ذكر اسمه والاكتفاء بكنية «فاعل خير»، والطيب المتبسم الذى يعاتب دوماً لطفى فى حياء، كلما خالف تعليماته «المعلنة»، فاضحاً تبرعه للفقراء والمحتاجين.

لن يراجعه أيضا فى هذه المرة، عندما يطلب منه تسعة آلاف جنيه، لرجل يريد أن يجرى عملية بأحد المستشفيات الحكومية، ولا يملك أجرة الجراح ومساعديه.. لن يطلب منه ثلاثة آلاف جنيه فقط تكفى عبدالنبى شحاتة لإجراء الكشف الطبى الشامل خارج السباق الرئاسى، يريده فى السباق أو بعبارة أخرى قصة مثيرة على هامشه، هو لن يخدع الحاج رشوان.. فعبدالنبى حالة إنسانية بالفعل.

■ ■ ■ ■

ظهيرة اليوم التالى.. كان عبدالنبى قد انتهى من تقديم الأوراق ودفع رسوم الكشف الطبى، ونجح لطفى فى الحصول له على موعد فى نفس اليوم، لإجراء الإشاعات والتحاليل اللازمة فى مستشفى قصر العينى الفرنساوى. ثم تحفظ عليه فى منزله، بعيداً عن أعين الصحفيين المنافسين، بعدما اقنعه بضرورة إعداد ملامح لبرنامج الترشح، كى يحظى بالمصداقية أمام لجنة الاختبار النفسى أو أى صحفى قد يفلح فى الوصول إليه.

لم يشأ لطفى التدخل بالنصح، أراد مادة خام طبيعية بخيرها، لقصته المثيرة، فاكتفى بالتدوين وترك عبدالنبى يسترسل واضعاً بنود برنامجه:

– يجب علينا جميعاً كمصريين التزام الهدوء فوراً، والكف عن الاحتجاج والتظاهر، والعمل لدفع عجلة الإنتاج.

– ينبغى أن نعمل معاً بحب، فالمشاكل متراكمة، وما لم نتحاب، وننح الحقد جانباً لن تقوم لنا قائمة.

– تحقيق الأمن والأمان ودعم الجيش والشرطة فى معركة القضاء على الإرهاب.

– توفير المسكن المناسب وفرص العمل والعلاج المجانى للمواطنين، بما فى ذلك تمكين مرضى التهاب الكبد الوبائى والإيدز، من العلاج باختراع اللواء ابراهيم عبدالعاطى.

– طرد سفراء الدول المتآمرة على مصر، وإزاحة إسرائيل من الوجود عقابا لها على تدخلها فى شئوننا، تنفيذاً لتهديدات مصادر سيادية، بثتها مواقع إلكترونية، ونقلها إليه مهللين الدكتور جورج، والشيخ عبدالتواب.

– إلقاء القبض على كل الخونة الممولين، ومحاكمتهم أمام القضاء الشامخ، ليصدر أحكامه العادلة الرادعة بإعدامهم.

و…. استمر عبدالنبى فى وضع بنود برنامجه، وانغمس لطفى فى التدوين.

فى أقل من ساعتين، كانت جعبة المرشح الرئاسى عبدالنبى شحاتة، متخمة ببرنامج من 20 ورقة فلوسكاب تزخر بالمشروعات الضخمة والحلول المتنوعة لمشكلات المصريين، حرص على تضمينها- كما لفت نظره لطفى- لمصادر تمويل متنوعة لإضفاء الجدية: مساعدات عربية وأجنبية، طرح أسهم للاكتتاب الشعبى، فرض ضرائب على الأغنياء ورسوم إضافية على السلع والخدمات الكمالية، وتأميم استثمارات الدول المعادية فى مصر.

■ ■ ■ ■

فى تهيب الماثل فى حضرة نصب تذكارى لجنود حرب لم يعد أحد يتذكر أين ومتى ولماذا نشبت، تسمر عبدالنبى يتصبب عرقا لدقائق، فى حلته اليتيمة السوداء- التى تعمد اختيار لونها صالحا لمناسبات الأفراح والأحزان- أمام مقر سرى، أوفدته إليه تعليمات اللجان الطبية لاجراء الكشوف النهائية.

استجمع بصيصاً من ثقة، بثتها فيه تطمينات لطفى المتكررة، وتقدم بمفرده متخطياً بوابته الخارجية، ممسكاً بيسراه برنامجه الانتخابى، وبيمناه مظروفاً مغلقاً ومختوماً، يتضمن نتائج كل التحاليل والإشاعات التى أجراها قبل يومين بمستشفى قصر العينى الفرنساوى.

تسلم المظروف بالأمس، وكاد يفر به للدكتور جورج ليفك طلاسم ما فيه، لولا أن أقنعه لطفى بالاستمرار، واستكمال فحوصاته، والحصول على تشخيص اللجنة نفسها، التى تضم أفضل الأطباء فى جميع التخصصات، بعدها يمكنه الانسحاب بسهولة، بحجة عدم نجاحه فى جمع آلاف التوكيلات اللازمة، لتدعيم ترشحه للرئاسة.

تخلى عن مظروفه المختوم لموظف الاستقبال، قبل أن يستقر فى غرفة كشف الأمراض النفسية والعصبية، فى مواجهة لجنة أطباء، حاصره أعضاؤها فى هدوء بمجموعة أسئلة، جرى تصميمها لتحليل شخصية الرئيس.

س: هل يهمك الاستماع لآراء الآخرين؟

ج: بالتأكيد.

س: هل تقبل التراجع عن رأيك إذا ما تبين لك عدم صحته؟

ج: نعم… الاعتراف بالحق فضيلة.

س: كيف تتراجع عنه؟ وهل تعتذر؟

ج: أتراجع وحسب… وأعتذر فقط إذا كنت غلطت فى حد أو تسببت فى أذيته!

فجأة، قاطع سيل الأسئلة المنهمر، طرقات سريعة على باب الغرفة، ثم انفتح دون انتظار لأمر دخول، ومرق منه طبيب شاب بدا مرتبكاً، يرفع بيمناه مظروف عبدالنبى المختوم، وقد تدلت نتائج فحوصاته من جوفه.

انحنى المقتحم لخلوة اللجنة بالمرشح المحتمل، ودنا من أذن رئيسها، متمتماً فيها بكلمات، كانت كافية لإصابة ملامحه بالتجهم، ودفعه لدفس وجهه فى أوراق التحاليل حتى احتكت بها عدساته السميكة، وراحت عيناه تجوب لدقائق سطوراً محددة منها مجيئاً وذهاباً، صعوداً وهبوطاً، حتى لاح أنه على وشك الإصابة بدوار.

رفع رأسه بصعوبة، ونظر لعبدالنبى بعينين زائغتين: مش عارف أقولك إيه، احنا مش هنقدر نكمل باقى الاختبارات… للأسف حضرتك غير لائق طبياً لمزاولة مهام رئيس الجمهورية… إنت مريض «لوكيميا».. سرطان الدم.

■ ■ ■ ■

جلس لطفى يراقبه وهو يحتضر فى غيبوبته الأخيرة، جثة شبه هامدة، تلتحف بثياب بيضاء، وكأنها تستعد للمغادرة، تمددت على فراش وثير، يلتصق بأحد أركان غرفة فسيحة بمستشفى استثمارى، تبرع بنفقاته الحاج رشوان.

لم يستغرق عبدالنبى أكثر من عشرة أيام للوصول لهذه النقطة. كان المرض ينهشه ببطء منذ سنوات دون أن يدرى، ولكنه أضحى وحشاً كاسراً، يفترسه بلا هوادة، بمجرد أن تلا عليه رئيس اللجنة عباراته المشئومة.

يبدو أن جهله بمرضه، شكل سداً ضعيفاً، أعاق على استحياء توغله… سداً دكته بلا رحمة دانة معرفة الحقيقة.

فى اليوم التالى لدخوله المستشفى، زاره الشيخ عبدالتواب، للمرة الأولى والأخيرة، أهداه مصحفاً صغيراً، أمره بالمواظبة على القراءة منه، ودعا له، وطالبه بالاستغفار من ذنوبه الكثيرة، من ذنب إغفاله تغيير اسمه، وذنب استمرائه للمعصية، بعمله فى عيادة الدكتور جورج، وذنوب تنظيمه للنسل، وعدم إجبار «الجماعة» على ارتداء النقاب، والاحتفال بعيد شم النسيم.

أما الدكتور جورج فقد اتصل به مرتين، الأولى اطمأن فيها على صحته، وأنبه على تأخره فى الاستماع لنصيحته المتكررة، بإجراء الكشف الطبى الشامل، قبل استفحال المرض. وفى الثانية زاد على رغبته فى الاطمئنان، اعتذاره عن عدم قدرته على زيارته كما وعده، لانشغاله فى المستشفى والعيادة التى استجلب ممرضة لمعاونته بها بصفة مؤقتة، لحين شفائه!

فى إفاقته الأخيرة، طلب من زوجته هانم أن تصطحب إسراء للمنزل، رفض ما تبقى من وعيه المتآكل، أن ينطبع فى ذاكرة ملاكه الصغير إلى الأبد، مشهد النهاية.

لطفى سعيد، كان هو الزائر الوحيد المقيم، يرقد بجوار قصته، راعياً لعنوانه المثير، ومشرفاً على دفع فواتير «غفران» الحاج رشوان للمستشفى. يراوده أمل أن يتعافى عبدالنبى ولو لعدة أشهر، تكفل مساحة زمنية لا بأس بها، لإراحة ضميره من شبهة وضاعة استغلال عبدالنبى شحاتة.

كان «خميس» يستحثه عدة مرات يومياً، لإرسال خبطته الصحفية، عن مواطن يسعى لإفساد وتسفيه العرس الديمقراطى، وابتذاله بتحويله لمجرد فرصة لاقتناص خدمة كمالية، إجراء كشف طبى شامل، هيأ له خياله المريض انه مجانى.

لم يطلع خميس على مرض عبدالنبى، ذكر له فقط أنه استعان بمساعدة الحاج رشوان، فى حجز بطاقة دخوله لاختبار اللجنة الطبى، فأشاد بفطنته، وطالبه باستكمال جميع محاور الموضوع. الاستعانة بأطباء نفسيين، لتحليل شخصية هذا المواطن المتنطع على انتخابات الرئاسة، وبشيخ من الأزهر وقسيس لبيان حكم الدين فى هذا السلوك المنحرف. لم يفت خميس أيضا أن يوصيه بالتحدث لسياسيين وقانونيين، لاستطلاع آرائهم حول ما ينبغى وضعه من قواعد قانونية وتشريعية، تكفل عدم تكرار مثل هذه المهازل فى المستقبل، وحتى لا يجد المرشح الكبير نفسه مثلا، أمام واحدٍ من الرعاع يطلب فى صفاقة مناظرته؟!

لا يعرف لطفى ماذا أصابه؟ لماذا فتر حماسه تدريجيا لاستكمال قصته منذ أن شاهد عبدالنبى يخرج محمولا من المقر «السري» للكشف الطبى النهائى، ويهرع للقفز بجواره فى سيارة الإسعاف، ويتدبر أمر دخوله للمستشفى؟!

لقد حرص منذ التقاه أن يقمع خليطا من الشعور بالتعاطف والذنب، بدأ يترعرع بداخله منذ اللحظة الأولى، تجاهله بشتى الوسائل فلم يفلح، حاول مرارا نسفه، بتبرير استغلاله لعبدالنبى، بإلقاء اللوم عليه، لإقدامه على هذه الفعلة الرخيصة، لمجرد إجراء كشفه الطبى اللعين. كان بإمكانه أن يستدين، أو أن يبيع أثاث منزله، بدلا من إراقة ماء وجهه، وإهانة هذا المنصب الرفيع.. حاول كثيراً بلا جدوى، وانهارت محاولاته إلى الأبد مع انهيار عبدالنبى نفسه مغشياً عليه. نسى قصته وخميس والجريدة، وعكف على ملازمة بطلها المدحور والعناية به.

تذرع بكل الحجج الممكنة فى مواجهة ملاحقة خميس.. ادعى اضطراره للسفر للبلد لمرافقة والده فى أزمة صحية طارئة، ثم اختلق رواية عن إصابة أخيه الأصغر فى حادث سيارة، وثانية عن انشغاله فى البحث عن مسكن جديد بعد أن طالبه مالك العقار الذى يسكن به، باخلائه، لتزويج ابنه الأكبر به.

لم يعد لديه المزيد من الحجج.. ورنين خميس لا ينقطع على هاتفه المحمول، ولا يتقاطع معه أحياناً سوى مرور طبيب أو ممرضة، للتأكد من بقاء عبدالنبى على قيد الحياة.

أضاءت شاشة هاتفه مرة أخرى، تراقص عليها اسم خميس، فى نفس الوقت الذى شهقت فيه ممرضة دخلت للتو إلى الغرفة، لتسارع لاستدعاء الطبيب المناوب، فى ثوانٍ كان قد حضر، وفى أقل من دقيقة، كان كل شىء قد انتهى.

التقط عبدالنبى هاتفه، رفعه ببطء لمستوى أذنه، أجاب بكلمة واحدة: حالاً… غادر الغرفة إلى الممر الخارجى، وفتح حاسبه المحمول، وشرع فى كتابة العنوان: وفاة المواطن المحتمل عبدالنبى شحاتة!

شكر خاص للصديقين الإعلامية بثينة كامل «المرشحة الرئاسية المحتملة فى انتخابات 2012 و2014»، والدكتور فايز فوزى لإمدادى بالمعلومات الضرورية لكتابة هذا المقال القصصي.

حازم شريف

حازم شريف

10:44 ص, الأحد, 18 مايو 14