منذ أن تولى الدكتور أحمد نظيف رئاسة الحكومة الحالية في يوليو الماضى، ونحن سعداء، راضون، قانعون، بالصورة التى نجح بجدارة في تقديمها لنا، كقائد لفريق إصلاحي عصري على المستوى الاقتصادي، ينجز في أسابيع معدودة، ما عجز غيره عن الإتيان به في سنوات.
جرأة، شجاعة، تهور، إصرار على تفعيل رؤية متكاملة للإصلاح، انصياع لضغوط داخلية وخارجية، أم خليط من كل هذا كله؟ قل ما تشاء، ولكنك في جميع الأحوال، لن تستطيع أن تفلت من حقيقة، أن الرجل، ومعه نفر قليل متجانس من الوزراء الإصلاحيين، قد باغتوا الجميع بسلسلة من الإجراءات والقرارات- بعد دهر من تردد السابقين-، تمثل نقلة نوعية، من مرحلة الاقتصاد اللا حر واللا مركزي، إلى السير بحسم غير معهود في منعطف السوق المفتوح وإعمال آليات المنافسة، وزيادة الانفتاح على الاقتصاد العالمي.
كل هذا جميل، وكان مرشحاً أن يبدو أكثر جمالاً وإشراقاً، لولا أننا قد أصبحنا على مشارف الانتخابات الرئاسية في نهاية العام الجاري، وما واكب ذلك من تصاعد حدة الضغوط الداخلية والخارجية للمطالبة بالإصلاح السياسي، وقيام الرئيس مبارك نفسه، بإلقاء حجر وسط المياه الراكدة، بإعلانه عن تعديل المادة 76 من الدستور، بما يسمح باختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر من بين عدة مرشحين، وذلك بدلاً من الاستفتاء على مرشح واحد.
فوسط تشكك الكثيرين في الداخل والخارج في مدى جدية النظام في الشق السياسي للإصلاح، وطرح العشرات من التساؤلات عن حدود الممارسة الديمقراطية التي سيسمح بها، وفي خضم حرب مظاهرات الشوارع والمظاهرات المضادة في مشهد إعلامى فضائى صاخب، وسط ذلك كله، كان لابد أن يتراجع الاهتمام بالاقتصاد، ليخرج من «الكادر» وتقف السياسة في القلب منه.
وبدلاً من حديث الأسعار والدولار والأجور والخصخصة والبورصة، قفز إلى الواجهة في وسائل الإعلام حوارات الانتخابات، والتعديل الدستوري وتفريغه من مضمونه، والإشراف القضائي، وما يطلق عليه الحوار الوطني، الذي بت أعتقد أنه قد اكتسب صفة «الوطني» من مسمى الحزب الوطني ذاته، لا اشتقاقاً من كلمة الوطن.
وكان طبيعياً أن يصمت نظيف، فما يدور في الساحة من مناقشات صاخبة، يجرى كله في ميادين وحول ملفات، لا علاقة لرئيس الوزراء بها، وفقاً لتقاليد الحكم في مصر على مدار السنوات الماضية، علاوة على أنه هو «نظيف» التكنوقراطي، ورغم ما يشمله خطاب التكليف لحكومته من تحقيق أهداف ومهام شاملة، فإنه يعرف كما نعرف، أن مهمته الرئيسية والأساسية، وربما الوحيدة، هي سرعة إنجاز الإصلاح الاقتصادي.
إلا أن رئيس الوزراء- لسبب أو لآخر- كسر حاجز الصمت، وخرج بعدة تصريحات، كان ختامها في حوار لوكالة رويترز نهاية الأسبوع الماضي، أكد خلاله على أمرين هامين: أولهما تعهده بمنافسة شريفة بين المرشحين في الانتخابات الرئاسية، بما في ذلك توفير فرص متساوية لهم في وسائل الإعلام الرسمية، أو على الأقل فى محطات التليفزيون المملوكة للدولة، لمتابعة الحملات الانتخابية.
أما الأمر الثاني الذي أكد عليه، فهو أن الحكومة لن تقمع المظاهرات السلمية، بما في ذلك تلك التي تخرج ضد الرئيس مبارك، وإن كان قد فضل تحديد مناطق في القاهرة، وغيرها من المدن، يمكن تنظيمها بها، ملخصاً موقفه في هذا الشأن بقوله: يجب أن يعبر كل شخص عن رأيه، إنه حق منحه الله للجميع.
واستخداماً مني، لرخصة التعبير عن الرأي، التي منحنى إياها الدكتور نظيف- بعد الله عز وجل بالطبع-، فإنني لمندهش أشد الاندهاش من تورط رئيس الحكومة في مثل هذه التصريحات!.
فأولاً نحن نعلم أن ملفي الإعلام والأمن- وغيرهما من الملفات السيادية الأخرى-، هما كما ذكرنا من قبل، خارج نطاق اختصاصات رئيس الوزراء في مصر، سواء من حيث اختيار القائمين عليهما، أو على مستوى التعاطي معهما فعلياً على أرض الواقع، هذا من ناحية.
ولكن دعونا نصدق أن الوضع ليس كذلك، وأن الدكتور نظيف صادق الإرادة وعازم النية فعلاً على تنفيذ ما وعد به، والآن ليدلنى أى منكم- بمن في ذلك السيد رئيس الوزراء- على سبيل المثال، عن اسم أى موظف في مبنى ماسبيرو العتيد حتى ولو كان على درجة وزير، بمقدوره أن يسمح وأن يتحمل ما يعتقده مسئولية، أن يخرج أحد المعارضين المرشحين لانتخابات الرئآسة، على شاشة التليفزيون المصري، ليتحدث عن الفساد مثلاً، أو ما يعتقد- ظلماً وعدواناً- أنه استبداد سياسى.
بل ليدلنى الدكتور نظيف على إجابة، لما أعتقد أنه سؤال حاسم مفحم: من هو ذلك الشخص الجبار، أو تلك القوى الخارقة للطبيعة، التي تستطيع إثناء الأستاذ سمير رجب- الذى أكن له كل مودة واحترام- عن إفراد كامل صفحات، ما يرأس تحريره من مطبوعات، للحديث عن مبادرات التأييد والمبايعة للرئيس في حالة قراره بالترشح للانتخابات، أو تستطيع أن تجبره على تخصيص أى مساحة لهؤلاء المرشحين المعارضين- إن وجدوا-، للحديث عن برامجهم الانتخابية؟!.
هذا طبعاً بخلاف بعض المساحات الصغيرة، التي سوف يمنحها-رجب- لهم، لا للحديث، ولكن لوصفهم بالضآلة والعمالة لقوى أجنبية موتورة، أو في أفضل الأحوال، لإتاحة الفرصة لبعضهم للفضفضة في حب عن تأييدهم للرئيس، وأنهم ما ترشحوا أمامه سوى لإثراء وتدعيم التجربة الديمقراطية!، وذلك طبعاً فيما يتعلق بهؤلاء المرشحين، الذين قد يتمخض عنهم الحوار الوطني!.
أما فيما يتعلق بحرية التظاهر، فنكرر مرة أخرى، أن ذلك ملف أمني وسياسي، تحسمه وتسمح به أو لا تسمح، وتقدر مداه وحدوده، جهات أخرى سيادية، لا تطولها يد أو نوايا رئيس وزراء مصر.
عزيزي الدكتور نظيف يعلم الله كم أقدرك، ولولا ذلك لما سمحت لنفسي، أن استخدم ما رخصت به لي من ممارسة حريتي في إبداء رأيي، كي أرجوك: ابتعد سيدي قدر الإمكان عن ملف الإصلاح السياسي الشائك، فله رجاله ورموزه المعروفون، العالمون بمسالكه ودهاليزه وآلاعيبه، فقط قاربه إن شئت من بعيد دون أن تلمسه، تناول العام منه وأترك الخاص، فأنا أحبك، وآبى أن تتشوه صورتك في عينى وفي أعين غيري من الناس، بعدما حققته، وما نأمل أن تتحقق المزيد منه على طريق الإصلاح الاقتصادي وليس «السياسي»!.