شاء القدر أن يتحول عام 2005 ، بفعل مجموعة من الأحداث المتعاقبة إلى موسم ساخن للنفاق السياسي!، أول هذه الأحداث، مطاحنات الإصلاح السياسي التي اندلعت بين الدولة بكل أجهزتها، والمعارضة بكل طوائفها من قوى سياسية، انضم إليها تباعاً شرائح كبيرة من القضاة والصحفيين والمحامين والمهندسين وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات.
وثانيها: الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور، بحيث يتم اختيار الرئيس بالانتخاب المباشر بدلاً من نظام الاستفتاء سيئ السمعة.
وثالثها: دنو أجل قيادات المؤسسات الصحفية الحكومية في مواقعها، والحديث عن تغيير وشيك شامل بها، يدخل به النظام مرحلة جديدة، لا يعلم أحد طبيعتها، أو ما سوف تسفر عنه من تغييرات في المجتمع، وفي النظام نفسه، في ضوء المتغيرات والضغوط الخارجية والداخلية.
ورابعها: انعقاد الانتخابات الرئاسية ثم التشريعية في شهرى سبتمبر ونوفمبر، ويعقبهما تكليف الرئيس لمن يختاره بتشكيل الحكومة الجديدة.
تواتر هذه السلسلة من الأحداث، جعل من العام فرصة ذهبية -أعتقد أنها محفوفة بالمخاطر-، لكل الطامعين في القفز إلى منصب أو موقع أو مقعد جديد، وللحالمين بالتشبث بكراسيهم الحالية إلى أبد الآبدين.
ولا عليك إلا أن تتأمل صور مسيرات وحافلات المبايعة، لتتأكد من ذلك، فأنا استطيع أن أفهم مثلاً أن يخرج متظاهرون يحملون لافتات، تحمل عبارات التأييد للرئيس مبارك، ولكني أعجز عن فهم- أو بعبارة أدق أفهم وأفضل أن أعمل فيها أهبل-، أن يتجاور مع هذه العبارات لافتات أخرى، تحمل أسماء الأشخاص والوزارات والجهات، بل و إدارات داخل هذه الجهات، تعلن عن هوية المؤيدين والمبايعين، كي تسجلها الصور والكليبات على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات وسجلات الحزب والأجهزة الأمنية.
فهذا وزير الإعلام يقود مسيرة بعد أن «لحف» مبنى ماسبيرو، الذى يحكم سيطرته عليه، بيافطة تأييد عملاقة لا شك أن حجمها يستحق أن يسجل فى موسوعة جينس للأرقام القياسية،
ولك أن تلاحظ أن الوزير قد أطلق على ما نظمه «مسيرة» وليس «مظاهرة»، لأن اللفظ الأول يتناسب مع التأييد المطلق، في حين أن الثانى له دلالة نسبية، توحى بتوافر بدائل، كما هو الحال في النظم الديمقراطية القائمة على التعددية، إلا أن الملاحظة الأهم، هي تلك اليفط الفرعية التى تعج بها المسيرة، ويحمل كل منها اسما من أسماء القطاعات المختلفة بماسبيرو، كقطاع القنوات الفضائية، والتليفزيون، والأمن!.
الكل يريد إذن أن يدون، بل ربما لو استطاع، أن يحفر اسمه في الصورة.
ولأن الكثيرين يؤمنون بمثل بسيط اخترعوه- على غرار المثل الشهير القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود-، يقول: النفاق الأسود ينفع في اليوم الأبيض، يوم النصر، يوم جني الثمار، حين يتصدرون قوائم الأسماء التي وقع الاختيار عليها، فإنهم لم يتوانوا عن تشمير السواعد والأقلام والحناجر، لتثبيت وتوكيد الولاء، واندفعوا في مزايدة محمومة، لا يحدها سقف من وازع مهني أو أخلاقي!.
فإذا قال الحزب لا تعديل في الدستور، برروا وفسروا وأكدوا على أن الدستور بوضعه الحالي، يكفل الحريات ويجعلنا نعيش الديمقراطية في أزهى عصورها.
وإذا عاد الرئيس ليعدل الدستور، طبلوا وزمروا، وقالوا إنها خطوة تاريخية تدخل بنا إلى أزهى عصور الديمقراطية!.
باختصار نعم على أى شيء ولكل شيء، وعلى كل من يقول لا، أن يستعد لتلقي اتهامات، أقلها قصر النظر وصولاً إلى التبعية والعمالة!.
ووسط ذلك كله يخرج عليك رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف، بتصريحات صحفية لوسائل إعلام أجنبية، تبدو كالسباحة عكس التيارين- تيار نفاق الوطني وتيار مطالب المعارضة-، يقول فيها إن المجتمع المصري، لم ينضج بعد لممارسة الديمقراطية، لتسن عليه الصحف والأقلام السكاكين، وتتهمه هو شخصياً بأنه «نصف سوى».
والحقيقة أن الاختلاف بين شخص الدكتور نظيف، وبين قيادات الحرس القديم بالحزب الوطني، ككمال الشاذلي على سبيل المثال، يذكرني بخلاف طريف نشب بين صديقين، حول أسلم طريقة يتبعها المرء لخيانة زوجته.
ففي حين رأى أحدهما أن سياسة نصف الحقيقة تمثل الحل الأمثل، بمعنى أن يواجه شكوك زوجته الدائمة أو الطارئة بطعم صغير يحمل قدراً من الواقعية، فإذا ارتابت في علاقته بزميلة له في العمل، لا ينكر العلاقة، ولكنه يؤكد في نفس الوقت، أنها مجرد علاقة زمالة أو صداقة- والصداقة هذه في حالة إذا ما ضبطته متلبساً معها يحتسيان القهوة فى مكان عام-، وأنه حتى إذا كان هناك ثمة إعجاب، فإنه من طرف واحد هو الزميلة بالطبع.
فان الصديق الثاني، تتلخص نظريته في إنكار العلاقة من الأساس، حتى ولو ضبطته زوجته مع امرأة أخرى عاريين في الفراش، فإنه سوف ينكر، ويؤكد لها أن لم تر جيداً، وأنه لم يكن ثمة أحد بجواره، أو أنها كانت أخه، أو أمه، وإنهما بالطبع لم يكونا عاريين، بل هيأ لها الشيطان ذلك، بل لا يتوانى أن يعلن عن غضبه الشديد منها، لمجرد أنها شكت وفكرت ولو للحظة واحدة، أنه قد يقدم على مثل هذا التصرف المشين!، ولربما احتاج الأمر لأيام وأسابيع وشهور حتى يقبل منها توسلاتها، بأن يصفح عنها، لما انتابها حوله- زورا وظلما- من ظنون.
وهكذا فإن الدكتور نظيف بحكم طبيعة ثقافته، التى تأثرت بما رآه فى الغرب من ممارسات ديمقراطية من ناحية، وبحكم موقعه على رأس حكومة الوطني من ناحية أخري، يجد نفسه مضطراً لإتباع سياسة نصف الحقيقة، فهو لا يستطيع- وربما قد يخجل من نفسه لو فعل-، أن يدعي أن هناك ديمقراطية في مصر على النمط الغربي، إلا أنه يرجع ذلك إلى الظرف التاريخي، وعدم نضوج الشعب سياسياً، ولا مانع أن يشير إلى أن عملية الإصلاح السياسي، قد بدأت منذ ثلاثين عاما!.
أما كمال الشاذلي القادم من قاع الاتحاد الاشتراكي، بكل تراثه الذي لا يعرف سوى اللونين الأبيض والأسود، إما أن تكون وطنياً أو عميلاً، مع النظام أو ضده، فإنه من البديهي أن يكون من رواد مدرسة الانكار التام، وأن يؤكد طوال الوقت وعلى مدار العصور ومهما اختلف موقعه، أننا نعيش الديمقراطية في أزهى عصورها، دون أن يهتز أو يغمض له جفن أو يؤنبه وازع من ضمير، حتى ولو ضبط أعضاء الحزب وأجهزة الدولة متلبسين- صوتا وصورة- بتزوير الانتخابات وتسديد البطاقات وتنظيم المسيرات مقابل حفنة جنيهات وبعض الوجبات الغذائية!.
في صباح يوم الأربعاء الماضي، وصف الدكتور نظيف في تصريحات صحفية- بعد إدلائه بصوته في الاستفتاء حول تعديل المادة 76 من الدستور- الاستفتاء، بأنه نقلة لمرحلة جديدة من مراحل العمل السياسي، يستطيع فيها المواطن أن يشارك مشاركة إيجابية!.
بعدها بساعات، وعلى وجه الدقة في تمام الساعة الثانية ظهراً، كانت نوال علي محمد الصحفية بجريدة الجيل، تقترب من مبنى نقابة الصحفيين بشارع عبدالخالق ثروت بوسط المدينة، كما تعودت كل يوم اثنين وأربعاء، لتتلقى دروساً في كيفية استخدام الحاسب الآلي- بالمصادفة هو نفس تخصص الدكتور نظيف-، عبر الدورات التي تنظمها النقابة لأعضائها.
نوال ليست صحفية معارضة، ولا علاقة لها بحركة كفاية ولا الإخوان المسلمين، ولا حتى الحزب الوطني، امرأة عاملة عادية متزوجة، مثل أختك أو زوجتك أو ابنتك أو جارتك، لم يسبق لها أن خرجت في مظاهرة، أو كتبت منشوراً، أو شاركت في مجلة أو نشرة سرية، أو انضمت لجمعية نسائية أو نسوية.
صحفية نعم، ولكنها من الأغلبية الصامتة الصامدة، تسعى لتحسين مهاراتها المهنية، ولديها قدر من الاعتزاز بنفسها وبمهنتها، ربما كان هو السبب- للأسف-، في أن تدخل فى محنة، وتمر بتجربة، ستظل محفورة في ذاكرتها، رغم المرحلة الجديدة، التي بشرها- وبشرنا- بها، الدكتور نظيف قبلها بساعات.
اقتربت نوال من مبنى النقابة، كانت تعلم أن هناك مظاهرة لحركة كفاية، أمر اعتادت عليه، إلا أنه لم يعوقها من قبل عن الانتظام في دورات الكمبيوتر، كان هناك أيضاً مظاهرة مضادة للوطني، يشرف عليها أحد أعضاء الحزب من مدرسة الانكار التام، الدكتور مجدى علام، رئيس قطاع القاهرة الكبرى والفيوم بوزارة البيئة، ورئيس لجنة المرافق وعضو أمانة السياسات بالحزب الوطني، ورئيس لجنة الاتصال السياسي بهيئة مكتب القاهرة، إلا أن كل هذه المناصب، لم تمنعه للمرة الثالثة من الزحف إلى نقابة الصحفيين ومعه مجموعة من البلطجية، يتراوح أجر كل منهم ما بين 20 و50 جنيهاً في اليوم الواحد، وقد وضعوا جميعاً على صدورهم بادجات، كتب عليها، نعم لمبارك.. مع تحيات مجدى علام!.
ولا داعي أن نظلم الرجل، فندعي أنه قد زحف مؤيداً ومهدداً المتظاهرين، طمعاً في شلوت إلى منصب أعلي، بل لعله قد جاء استجابة لولعه الشديد بالصحافة والإعلام، منذ أن شغل منصب مستشار الإعلام بجهاز شئون البيئة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
عندما اقتربت نوال من مبنى النقابة، اعترضها بعض أفراد الأمن المركزي، وطلبوا منها الرجوع دون إبداء أسباب، وبعد شد وجذب لم يدم طويلاً، فعلت كما يفعل أي مواطن في موقف كهذا، طلبت منهم، أن تتحدث مع الضابط المسئول.
الحوار- كما روته لي نوال- مع الضابط الشاب بدوره لم يدم طويلاً
الضابط: إلى أين أنت ذاهبة؟
نوال: أنا صحفية وداخلة النقابة بتاعتي
الضابط: ممنوع الدخول
نوال: أنا عندى كورس كمبيوتر
الضابط: بتوع كفاية جوا وبيضربوا، ممنوع الدخول.
«لاحظ أن يوم الاستفتاء تحديداً شهد سحل المتظاهرين والمتظاهرات بمنتهى الوحشية على عكس الأسابيع الماضية، لعل هذه مرحلة المشاركة السياسية التى تحدث عنها نظيف فى الصباح!».
نوال: أنا مش جاية أتظاهر، أنا جاية آخد كورس، وأنت ما تقدرش تمنعنى أخش النقابة بتاعتي
الضابط: طيب خشي على مسئوليتك الخاصة!.
مشت نوال في هدوء، وقبل أن تصل إلى السلم، لا حظت إشارة من أحد الأشخاص- تبين أنه الدكتور علام فيما بعد- إلى مجموعة من البلطجية من أتباعه، أحاطوا بها، سرعت من خطواتها، محاولة الوصول إلى باب المبنى، لم تتخيل أن يمسها أحد، فقط تهويش ربما تخويف.
لم تكن تدري أن علام يطمع في منصب جديد، وأن بلطجيته يطمحون إلى زيادة اليومية، انقض عليها الوحوش، انكفت على وجهها، انكبوا عليها، لم يرحموها رغم ما أطلقته من صرخات استغاثة، مزقوا ملابسها، ظهر البلوزة، البنطلون الذي ترتديه، حملوها إلى الرصيف المجاور، بعدما سرقوا ما ترتديه من مشغولات ذهبية وشنطة يدها وتليفونها المحمول، وهناك وجدت الضابط الشاب، هددها مرة أخري، وحاول أن يجبرها على ركوب سيارة أجرة والرحيل!.
كانت نوال لا تدرى إن كانت حية أو ميتة، في وعيها أم مغشياً عليها تحلم بما لم تتوقع يوماً أن يحدث لها، اقترب منها زميلها الصحفى حسين متولي، خلع قميصه لتلف به نصفها الأسفل، وتجمع العديد من الصحفيين والمحامين من مبنى نقابة المحامين المتاخم.
في المساء اصطحبها عدد من أعضاء مجلس النقابة من بينهم النقيب جلال عارف وسكرتير النقابة يحيى قلاش وممدوح الولي وصلاح عبدالمقصود ومحمد خراجة، يرافقهم خمسة من الشهود إلى قسم شرطة قصر النيل لتحرير محضر بواقعة الاعتداء الوحشي.
في اليوم التالي أصدر مجلس النقابة بياناً، حمل عنواناً شديد اللهجة «بيان غضب بشأن جريمة هتك العرض»، نددوا فيه بما تعرضت له نوال، وغيرها من الزميلات الصحفيات وغير الصحفيات، اللائي تعرضن لاعتداءات من عصابات البلطجية والمجرمين، وسط حماية جحافل هائلة من جنود وضباط الأمن المركزي.
الأمر المؤسف أن أغلب أعضاء المجلس وافقوا على البيان، بينما اختفى كل من الأستاذ إبراهيم حجازي والأستاذ رفعت رشاد رئيس التحرير السابق للجريدة التي يصدرها ويرأس مجلس إدارتها ابن الأستاذ كمال الشاذلي.
أما أحمد موسى عضو المجلس، والذي رشحته جهات أمنية مؤخراً لرئاسة إحدى مطبوعات جريدة الأهرام، فلم يكتف بالاختفاء، وإنما نشر أيضاً في اليوم التالي- تدعيما لترشيحه- في الصفحة التى يشرف عليها فى جريدة الأهرام تقريراً، لا يضاهيه فى تدنيه، سوى مقال الأستاذ سمير رجب يوم الثلاثاء الماضي حول محاولة قتل الفنان عبدالعزيز مخيون.
تأملوا معى مدى الافتعال والركاكة فى تقرير موسي: «أمام نقابة الصحفيين وضريح سعد زغلول تجمع نحو 700 شخص من الحزب الوطني و80 شخصاً من حركة كفاية، وتشابك الفريقان بتبادل العبارات، ووصل الأمر إلى التشابك بالأيدي، مما دفع إحدى المتظاهرات بتمزيق ملابسها- لا نعرف لماذا ولاحظ الركاكة في استخدام حرف الجر ب بدلاً من إلى-.
واستطرد موسى: وأدعت -يقصد نوال- أن أحد المشاركين من جانب المشاركين- لاحظ الركاكة مرة أخرى في عبارة المشاركين من جانب المشاركين- في الهتافات من الحزب الوطني قام بتمزيقها، فلم يكن أمام رجال الشرطة، إلا أن اصطحبوها إلى قسم شرطة قصر النيل لتحرير محضر بذلك. «يخرب بيت أم الاسفاف والركاكة»!.
صور الاعتداءات على نوال وغيرها من النساء تناقلتها وكالات الأنباء العالمية مثل وكالة الأنباء الفرنسية، التي بثت صورة نشرتها صحيفة المصري اليوم فى صفحتها الأولى يوم الخميس الماضي، يقوم فيها بعض البلطجية، بمحاولة لخلع بلوزة إحدى المتظاهرات من حركة كفاية أثناء سحلهم لها.
بالمناسبة وجوه البلطجية واضحة جداً فى الصورة لمن يهمه الأمر.
أما صور نوال بعد الاعتداء عليها فتجدونها على موقع الواقع المصرى «www.misrdigital.co.uk.tt/» وكذلك الصحفية شيماء من جريدة الدستور، وصور بلطجية الوطنى أيضاً. وهذه رسالة إلى الأخوة من أعضاء جماعة ا لإصلاح!.