ليس أصدق من الجنرال «أيزنهاور» بين الرؤساء الأميركيين.. حين حذر قبل مغادرته البيت الأبيض فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى.. التحوط من مخاطر سياسات المجمع الصناعى العسكرى.. الساعية لتضخيم أرباحه من خلال استحداث الحروب وإثارة التوترات فى أنحاء مختلفة من العالم، خاصة من بعد الصعود الأميركى إلى عنان السماء- كقوة عظمى- بجانب الاتحاد السوفيتى (السابق) ضمن النتائج التى أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية، بحيث لم يكن من بُدّ إزاء خوفها الجامح من الشيوعية إلا الدفاع عن نظامها الديمقراطى عبر المطاردات (المكارثية) من ناحية، وفى الحفاظ من ناحية أخرى على نفوذها الجيوسياسى الناشئ، من خلال التنازع العسكرى.. وفى مناصرة الديكتاتوريات طوال الحرب الباردة الممتدة من 1947 – 1989 إلى أن انتهت بالحسم الليبرالى للعالم الغربى بقيادة الولايات المتحدة.. التي أصبحت زعيمة العالم بلا منازع منذ ذلك التاريخ، ولثلاثة عقود تالية، تهيأ للمجتمع الدولى أن ينعم خلالها بحقبة من السلام فى ظل «الأحادية الأميركية».. إلا أنها عجزت عن القيام بدورها القيادى المفترض لتسوية الأزمات العالمية إذ رأت فى استمرار تفاقمها مصلحة أميركية، وعلى النحو المشهود منذ التسعينيات.. حيث أغراها التفرد بالقوة إلى التوجه لمزيد من البطش، حتى ضجّ العالم من سياستها وعلى النحو الذى انتقده بشدة الرئيس الروسى فى مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبى فى العام 2006، وبالتزامن مع كل من الصعود الصيني.. واستعادة روسيا لقوتها، ما يمثل تحديًا جديدًا للنهج الإمبريالى الأميركى.. باتت تدافع للإبقاء عليه فى وجه وعي إنساني عالمي متصاعد لتكتلات إقليمية ودولية ناشئة.. حتى ولو أدى الأمر إلى نشوب حرب عالمية ثالثة تلوح نذرها من وقت لآخر.. سواء فى الشرق الأوسط من فرط الانحياز الأميركي المطلق للأهداف غير الواقعية لإسرائيل، ومن حيث رغبتها فى إزاحة تنامي الوجود الروسى والصينى عن المنطقة، أو سواء لإشعال الموقف فى شبه جزيرة القرم من حيث السعي لامتداد نفوذ «الناتو» إليها بما يهدد المحيط الحيوي لروسيا التي خاضت الحرب فى أوكرانيا منذ فبراير 2022 فى مواجهة تشجيع واشنطن للرئيس الأوكرانى (الكوميديان) للاستمرار فيها إلى أن طال رذاذ آثارها السلبية العالم فى مجمله، أو سواء من حيث تضمين الجولة الآسيوية لرئيسة النواب الأميركى «بيلوسى» زيارة «تايوان» ما يمثل استفزازًا لسياسة بكين عن «صين واحدة»، ما أشعل المنطقة بمناورات عسكرية غير مسبوقة، تهدد بخروج الوضع عن السيطرة نحو «نزاع مفتوح» حول مضيق تايوان، وبسبب خلافات تجارية أخرى، الأمر الذى تعتبره بكين استفزازًا كبيرًا لها، أو سواء لمحاولة واشنطن تغيير موازين القوى من خلال استقطاب كل من فنلندا والسويد إلى حلف «ناتو»، أو سواء لاختيار الإدارة الأميركية هذا التوقيت في مطلع أغسطس الحالي لاصطياد زعيم «القاعدة» الإرهابى (الظواهري)، حليف حركة طالبان المتوافقة مع واشنطن.. وربما يهدد التحرش بها بتشجيع تنظيمات إرهابية أخرى، مثل داعش، إلى تنشيط عملياتها فى مناطق عدة من العالم، ناهيك عن تشجيع واشنطن للمملكة المتحدة 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبى «بريكست» ضمن صفقة تجارية ضخمة بينهما.. مهدت لانضمامها معًا فى حلف أنجلو ساكسونى، «أوكوس» مع أستراليا وكندا فى مواجهة الصين، وإلى ما غير ذلك لغيض من فيض استفزازات أميركية فى الآونة الأخيرة باتت تمثل تصعيدًا يبدو أمرًا مقدرًا فى نهاية المطاف لدخول روسيا والصين فى صراع مباشر مع حلف شمال الأطلسى «ناتو»، إذ تعلن بكين مؤخرًا عن تعليق التعاون والحوار العسكري مع واشنطن، وإلى توسيع مناوراتها حول تايوان، فيما تعزز الشراكة في الوقت نفسه مع موسكو، ما يدعو للقلق في بروز حرب باردة جديدة.. خاصة لو استمر غياب المحادثات التى يمكن أن تساعد فى تحديد التسويات المتوازنة اللازمة لإيجاد حلول وسط لأزمات لا تزال تغذِّيها تحرشات أميركية كاللعب بالنار.
* عضو مكتب مستشار الرئيس للأمن القومى فى السبعينيات