كانت القرية رغم أنها الوحدة المنتجة الأساسية لبلد يُعرف منذ فجر التاريخ كبلد زراعي، لا تلقى الرعاية الحضارية المتكافئة مع أهميتها الاقتصادية، كما لم تكن بالنسبة لأهل المدينة سوى منتجع صيفى يقضى به أبناؤها- لأيام- قبل ذهابهم إلى المصيف، وفى زيارة مزارع الأهل المُورقة وسط بيئة ريفية أقل ما يوصف بها قحطها أنها «بكر»، بكل ما فى الكلمة من معان، بلا ماء نقى أو إضاءة كهربائية، وما إلى ذلك من فوارق لافتة- ليست سطحية- بين دُور المُوسِرين، وأخرى طينية وإن كانت تسكنها قلوب من ذهب، هى التى تفلح الأرض، وتوقّر الكبير، فيما تكسو قناعاتهم الراضية المستسلمة، ما تمور به الصدور من شظف العيش وجدب البيئة، لا يضاهيها فى تقشفها غير صحراء «سيناء» الحدودية، ذلك باستثناء ما لدى القرويين من نباهة فطرية لا تخطئها عين الزائر القادم من المدينة، وإن استخفّت بها عيون الأتراب فى القرية، لكن ما هى إلا سنوات مع مطلع النصف الثانى من القرن العشرين، إلا وتكتسى القرية المصرية بثوب جديد، وإن كان رقيق الحال، إلا أنه أفضل من الجلباب الأزرق، حيث دخلت إليها المياه النقية.. وانتشرت بها الوحدات الطبية، ما أضفى (وغيره) على القروى الموعز الشعور بكينونته التى كان شديد التوق إليها حتى معاصرته الموجة الأولى من تحديث القرية فى العقدين التاليين، ذلك قبل أن ينحسر زخمها بالتوازى مع تصاعد تعقيدات الحرب والسلام، إلى أن كان توقيع الاتفاقية مع إسرائيل فى واشنطن مارس1979 ، ليتوجه بعدها الرئيس «السادات» للقاء رجال المال والأعمال فى غرفة التجارة الأميركية كى يتحدث عن الآمال المترتبة فى ظل «السلام»، عن «الديمقراطية» و»الرخاء»، حيث كان تحديث قريته «ميت أبو الكوم» فى خلفيته الذهنية وهو يستعرض مناحى الرخاء المرتقبة فى قرى مصر وسينائها، إلا أنه لم يرعوِ فى العام التالى عن طرح فكرة تزويد إسرائيل- عبر سيناء -بمياه النيل، مقابل القدس، ذلك قبل أن يقضى نحبه فى العام 1981 ليدخل حلم «تحديث القرية»، بجانب «تعمير سيناء» دائرة النسيان، لأسباب غير قومية، إذ كانت عين الصهيونية منذ العام 1904 على سيناء لتوصيل مياه النيل إلى مستعمرات شرق العريش عبر أنابيب تمر من تحت قناة السويس (محادثات تيودور هرتزل مع «السلطان عبد الحميد»)، وهو ما يعترض حركة التنمية المصرية المرتقبة لنقل الكتل السكانية من الوادى المكتظ بالقرى المراد تحديثها إلى فراغ مساحات سيناء الهائلة لاستكمال تعميرها، وهكذا يدخل المشروعان التنمويان القوميان فى الثلاجة السياسية لأربعة عقود تالية، إلى أن أُعيد التفكير فى إحيائهما منذ العام2014 ، وليبلغ ما تم إنفاقه منذئذ على تعمير سيناء حتى الآن 60 مليار جنيه، ما يمثل معجزة بكل المقاييس، الأمر الذى سوف يعطى متنفسًا لتعمير قرى الدلتا والصعيد التى عانت الإهمال طويلًا، ولمساعدة سكانها على الإنجاز والتطوير عبر مشروعات ضخمة لتحديثها، وفى توفير حياة كريمة لأهاليها، ذلك من خلال ضوابط للبناء الرأسى التوسعى، وفى حماية الأرض الزراعية، السابق تجريفها فى العقود الأخيرة، مع إجراء تعديلات فى نظام الرى والصرف، ما يسمح بنقل المياه بطول 1250 كم إلى شمال سيناء، ما يمثل عوامل ضرورية تنبع من احتياجات قومية.. وإمكانيات بيئية.. واقتصادات المكان، الأمر الذى يستلهم روح العصر، ويستبِق المستقبل، ذلك من خلال مبادرة تبلغ تكاليفها 70 مليار جنيه لعدد من القرى فى المرحلة الأولى، يليها باقى المراحل التى تستهدف تغطية كل قرى الريف المصرى، فى الأعوام الثلاثة المقبلة، بحيث يكتمل تحديث القرية.. كحلم قديم يتحقق بالتوازى مع تعمير سيناء.
End of current post