فى فصل ثان، من كتابه « مع الشعراء » ـ تناول الدكتور زكى نجيب محمود ـ كيف ترجم العقاد للشيطان، ويقصد بذلك قصيده المتميزة « ترجمة شيطان » ـ التى نظمها الأستاذ العقاد قرب ختام الحرب العالمية الأولى، وما أصاب العالم منها. وكان العقاد عندئذ قد قارب الثلاثين من عمره، فجاءت القصيدة كما يقول عنها فى مقدمة نثرية قصيرة، لفحة من نار الحرب، وما هى إلاَّ سنوات قلائل بعد قصيدة العقاد، حتى ظهرت فى الإنجليزية أختٌ لها، وهى قصيدة ت. س اليوت « الأرض اليباب ».
والواقع أن الأدب فى أوروبا قد مر بعد الحرب العالمية الأولى بمرحلة تلقى ضوءًا على قصيدة العقاد، فقد أحس نوابغ الأدباء هناك بأن القيم الإنسانية قد أهدرت فى تلك الحرب، وأن الغلبة قد باتت للطغام ومَنْ دونهم، وكأنما زمام العالم قد بات فى أيدى الدهماء، يسوقون أصحاب المواهب، بدل أن يُساقوا، ولم يعد فى وسع صاحب الموهبة الأدبية إلاَّ أن يثور لكرامة الأدب، ويقيم حاجزًا بينه وبين هؤلاء الدهماء.
جاء أدب ما بعد الحرب ـ فيما يقول ـ أدبًا خاصًّا أريد به خاصة الخاصة، ولم يكن صدفة أن يظهر فى عام واحد (1922) قصيدة ت. س. إليوت «الأرض اليباب» وقصة جيمس جويس «يولسيز» بما فيهما معًا عن عسر وعمق، ولا كانت صدفة أن يسبقهما مباشرة شعر « بول فاليرى » فى قصيدته « مقبرة عند شاطئ البحر » (عام 1920) وأن يلحقها فورًا قصة « الجبل المسحور » لتوماس مان (1924) وقصة فرجينيا وولف « مسز دالواى » (1925)، و« الحصن لكافكا » (1926)، ولم تكن مصادفة أن تزدحم كل هذه الآثار الأدبية فى خمسة أعوام فى أعقاب الحرب، وكلها صعبة المأخذ عسيرة المنال بعيدة الغور.
هذا ولم يغب أمر قصيدة «ترجمة شيطان» للأستاذ العقاد، عن ناقد فذ كالدكتور طه حسين، فقال فى حفل تكريم أقيم للعقاد سنة 1934: « إننى لا أجد عند العقاد ما أجده عند غيره من الشعراء، لأنى حين أسمع شعر العقاد، أو حين أخلو لشعر العقاد ( يريد أنه يحتاج لخلوة مع النفس) ـ فإنما أسمع نفسى أو أخلو إلى نفسى، وأرى صورة قلبى وصورة قلب الجيل الذى نعيش فيه ……..، وحين تقرأون العقاد تقرأونه وحده، لأنه ليس مقلدًا ولا يستطيع أن يقلد، ولو حاول التقليد لفسدت شخصيته ».
● ● ●
حياة الشيطان كما ترجم له العقاد، ترى فيها فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود ــ أن الصائغ هو الرحمن الذى وسعت رحمته كل شىء، ومكان الصياغة هو قاع الجحيم، وزمانها غسق الظلماء، والمصوغ هو شيطان صاغه الله ليرمى الأرض به، وإن تجريد كلمة شيطان من أداة التعريف، ليدل على أنه واحد من زمرة، وقُصد للمهمة التى أريد له أن يؤديها، وهى أن تُرمى الأرض به ليكون لأهل الأرض عبرة، فإذا طلب من سائر الإنس والجن أن يعبدوا الله شكرًا على أنه خلقهم من عدم، فلا يطلب مثل هذا الشكر من شيطان كهذا، كُتب له السوء ! والله فى ذلك كله عليم وقادر فهو يعلم ما لسنا نعلمه من حكمة وراء صياغة كائن كهذا يراد به أن يكون رسول شر للأرض ومن عليها، فالله يكن على علم الله وقدرته بعزيز أن يأمر مخلوقه هذا الكنود المنكود أن يكون فقط محنة للأبرياء، لأنهم هم الذين ابيضت صحائفهم، وأما من اسودت صحائفهم بالسوء، فلم يكونوا بحاجة إلى رسالته ولا إلى عبرته، ومن ثم كان الإحراج الذى لا مخرج منه: أيعصى أمر القضاء فيكسب رضى أهل الأرض لكنه يستحق اللعنة فى الآخرة لعصيانه، أم يطيع الأمر فيكون هو الشيطان اللعين الرجيم كما أريد له أن يكون ؟ إنه إما أن يعصى أو يطيع، ولا ثالث لهذين الفرضين، وفى كلتا الحالتين هو الفاجر الخاسر، ولعل هذا الإحراج كان هو النموذج الأزلى الذى جاء ساسة الدول فنسجوا على منواله، فما على السياسى إذا قبص على السلطان فى يده وأراد أن يخرج من جنته أحد أعدائه، إلا أن يكلفه بما يُوقِعُه فى حرج كهذا، بحيث يوصم بالخيانة إن أطاع وإن عصى على حد سواء، ترى هل تكون السنة التى جرى عليها أصحاب الحكم طوال التاريخ، وهى ان يعنوا أكبر عناية بإقامة المعابد، دلالة على عرفانهم بالجميل الذى هداهم كيف يكون سبيل النقمة كلما أرادوها ؟
قال الخالق لمخلوقه الشيطانى: كن محنة للأبرياء، فأضلل من الناس من تشاء، وستكون الجحيم مأواك ومأواه ، قال له ذلك وقذف به ليؤدى رسالته، فهوى على الأرض، صفر الراحتين، خاوى الزاد، فأين يمضى ورحاب الأرض واسعة ؟
إن رسالته هى أن يبذر للشر بذوره، وليست الحيرة هى: أين يجد التربة فالأرض صالحة لبذوره أينما ألقاها، وإنما الحيرة هى أى أصقاع الارض يبدأ بها سيرته ؟
هنالك احتمالان لعلهما قد وردا على خاطره ليختار منهما، فهو إما أن يختار أرضًا بلغت من المدنية شأوا، أو أن يختار أرضًا لم تزل على الطبيعة بكرًا، فاختار الثانية، أو لعله أرغم عليها، فهبط من الأرض فى واد يسكنه الزنج، فأهله عوضوا عن الظل بالظل البادى فى جلودهم، فوا عجبًا ! لقد اختلط هنا الأمر بين حيوان وإنسان فلا تدرى أيها هو أيها ؟ أهذا الكائن المكتسى جلدًا وريشًا من فئة الإنسان أم من فئة الحيوان ؟ فاللذى يفرق بين الفئتين مفقود، إذا لا يفرق بينهما إلا ما يظفر به الإنسان ـ دون الحيوان ـ من علم وفن
وحضارة فى الأكل والشرب والمأوى، فإن غابت هذه الأشياء كلها غاب معها المسوغ الذى يجعل من الإنسان إنسانًا، وأعجب العجب أن الطبيعة هنا قد سخت على النبات ثم شحت فى عالم الإنسان، فمن النبات خذ ما تشاء ازدهارًا وسموقًا وغزارة وإثمارًا، وليس فى عالم الإنسان من ذلك كله شئ، وفى أرض كهذه لا يكون تاريخ، فالماضى والحاضر سواء، فمن العبث أن يسألهم سائل: كيف كنتم وماذا صرتم إليه، لأن ما كانوا عليه وما صاروا إليه هو الطبيعة الفجة الشائهة !
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com