من يقال له : أمل إيطاليا الأخير

من يقال له : أمل إيطاليا الأخير
طارق عثمان

طارق عثمان

8:31 ص, الأحد, 7 فبراير 21

ماريو دراجى غالبًا آخِر أوروبى نُظر له بإعجاب فى الدوائر المالية فى بافاريا (وهى الأكثر حزمًا، وربما نجاحًا فى ألمانيا)، كما فى اليونان (وهى من الأكثر احتياجًا للدعم فى أوروبا). ذلك أن المُحافظ السابق للبنك المركزى الأوروبى كان مَن وفّق بين مطالب القوى المالية الكبرى فى أوروبا، تلك التى قدَّمت الدعم المالى فى أصعب اللحظات الاقتصادية فى العقد الماضي، وبين احتياجات الاقتصادات الأوروبية فى جنوب القارة، تلك التى وجدت نفسها أمام هاوية العوز بلا مصادر دعم.. وكان إنجاز الرجل أنه صاغ طرقًا للمساعدة قُبلت من السياسيين الرئيسيين على الجانبين.

اليوم، وبعد انهيار جديد للتحالف الحاكم فى إيطاليا، لجأ الرئيس الإيطالى (وهو بلا سلطات تنفيذية) إلى دراجى ليُشكّل حكومة.

هناك أربع نقاط قد تهمّ متابعى السياسة الأوروبية.

واحد: أنه بعد خمس سنوات من التغيرات الجوهرية التى حدثت فى الحزبين الرئيسيين فى إيطاليا، ما زال هناك فشل فى وجود حكومة تستطيع أن تستمر وتتخذ إجراءات هامة، مثل إصلاحات اقتصادية لا شك أن إيطاليا تحتاج إليها. والنتيجة الخارجة من ذلك، أن عقدة استمرار أى حكومة فى إيطاليا تتعدى مجرد وجود قيادات قديمة لم تكن قادرة على التواصل الذكى من الشباب أو مع طبقات مختلفة فى المجتمع، وأن العقدة فى الحقيقة فى وجود اختلافات جوهرية فى الأفكار، وفشل أيّ اتجاه فكرى (وسياسي) أن يحصل على عدد كبير من الأصوات، ومن ثم الوجود فى البرلمان. هذا أدى إلى تفكك فى السياسة، وفى البرلمان، وإلى هشاشة كل الحكومات الإيطالية فى خمسة الأعوام الماضية.

اثنان: اللجوء إلى اقتصادى بلا أى تمثيل سياسي، ولا أى علاقة بأى حزب سياسي، سواء كبيرًا أو صغيرًا، هو اعتراف من قمة الدولة بأن السياسة غير قادرة على تقديم حلول، وأن الحل هو الابتعاد عن هؤلاء الذين لهم مواقف سياسية، وتمثيل برلماني، والذهاب إلى تكنوقراطيين. والمشكلة أن هذه الفكرة ضاربة فى صميم التمثيل السياسى وفى الديمقراطية.

ثلاثة: أن مثل هذه التجربة سبق أن جُرّبت فى إيطاليا منذ سنوات قليلة. وكانت النتيجة صعود أحزاب تمثل أفكارًا من أقصى اليمين ومن أقصى اليسار. وكان هذا الصعود أحد أسباب التفكك السياسى وهشاشة الحكومات. أى أن ما يبدو أنه حل (اللجوء إلى اقتصاديين محترفين، و ليس سياسيين) أدى من قبل إلى مشكلة أعمق- وتلك ظاهرة ملاحَظة فى عدد من الدول، وليس فقط إيطاليا؛ لأنها تقطع العلاقة بين التمثيل السياسى والسلطة التنفيذية، وهذه هى أساس أى نظام سياسى يعبر فعلًا عن مواطنيه.

أربعة: هناك من يرون فى ماريو دراجى كرئيس وزراء إيطاليا صعودًا لدور إيطاليا فى السياسة الأوروبية. ذلك أنه بتجربته ونجاحه فى البنك المركزى الأوروبي، يمكنه (فى هذا التصور) خلق دور لإيطاليا بجانب الثقل السياسى والاقتصادى لفرنسا وألمانيا. وهذا صحيح إلى حد ما.. الرجل بقيمة ووزن تجربته (وهى كلها فى الولايات المتحدة وبريطانيا قبل مجيئه إلى قيادة البنك المركزى الأوروبى فى فرانكفورت فى ألمانيا) يستطيع أن يقدم أفكارًا قيّمة، وسوف تُسمَع لأنها قادمة منه هو.. لكن فى نهاية الأمر، مشكلة إيطاليا العميقة ليست فى طموحات أن تلعب دورًا فى قيادة أوروبا، ولكن أن تجد حكومة ديمقراطية تستطيع أن تتخذ قرارات هامة وصعبة، دون أن تفقد شرعيتها فى البرلمان. وليس من الواضح كيف يمكن لماريو دراجي، بكل خبرته ونجاحاته، أن يحلّ تلك المعضلة، خاصة أنه، مرة أخرى، بلا أى تمثيل سياسي.

ولعل هناك فوائد عدة لنا فى متابعة تلك التجربة. ذلك أن إيطاليا فيها من التفاصيل ما هو قريب من بعض مشاكلنا. كما أن فيها من التنوع فى الثراء والتقدم والتأخر والاتصال بشمال أوروبا، فى مقابل الالتصاق بثقافة البحر الأبيض المتوسط، ما يشبه الكثير من التناقضات فى مجتمعنا.. وأخيرًا، فإن إيطاليا، رغم كونها دولة ديمقراطية ذات تعددية سياسية حقّة وذات فضاء اجتماعى وسياسى حر، تمر منذ سنوات بمخاض، فى قلبه إخفاقات سياسية كبيرة.. واليوم ونحن نتذكر المخاض المَهول لكل العالم العربى فى السنوات العشر الماضية منذ 2011، لعل هناك دروسًا فى تجارب مختلفة تمامًا، ولكنها ليست شديدة البُعد عنا.

* كاتب مصرى مقيم فى لندن