لم تندحر الحملة الفرنسية عن مصر 1801، إلا وتلقى المصريون عن الثورة الفرنسية 1789.. القيم العليا التى صدرتها للبشرية عن «الإخاء والعدالة والمساواة»، ما ساعد على إغلاق صفحة المثالب الأخيرة للعهد المملوكى، من بعد انحسار سبق إنجازاته بالتوازى مع سياسات القرن 16 التى تحولت خلالها طرق التجارة العالمية عن الموقع الجيوسياسى الوسطى لمصر بين المحيطين إلى رأس الرجاء الصالح، وليتجه علماء الأمة ومشايخها مع بداية القرن 19 إلى عزل الوالى العثمانى «خسرو باشا»، وللمطالبة بالقائد العسكرى من رعايا الإمبراطورية العثمانية «محمد على» والياً على مصر 1804، لتبدأ معه البلاد عصراً جديداً من الحداثة تواكبت آلياته مع بناء الجيش على أسس علمية «سليمان باشا الفرنساوى»، ما أسهم كذلك فى إعلاء دور مصر الإقليمى، إلى جانب إحراز التقدم فى مختلف المجالات والصناعات التكميلية، وبمجهودات طموحة متتالية من ولاة الأسرة العلوية التى دانت لهم حكم مصر مائة وخمسين عامًا تالية، تحلق حولهم شرائح طبقية عرقية من غير المصريين، لم تحل- إن لم تشجع- على بروز الحركة العلمية الوطنية مع النصف الثانى من القرن 19 (الططهاوى – على مبارك- الأفغانى- محمد عبده- عرابى- البارودى- النديم.. إلخ)، كما إلى بزوغ نواة الطبقة الرأسمالية عشية القرن العشرين.. الذى شهد بدايات الحقبة الليبرالية، من حرية الصحافة- تحرير المرأة- التنوير الدينى وإلى إنشاء الجامعة الأهلية والمجلس الاستشارى.. إلخ، إذ لولاها ما كانت ثورة 1919 فى سبيل إجلاء المحتل البريطانى وإلغاء الامتيازات الأجنبية.. إلخ، ولتحصل مصر على استقلالها الأول فى فبراير 1922، وإعلان دستور 1923.. المنظم لأول حياة برلمانية منتخبة، تقيدها صلاحيات دستورية للقصر الملكى، ناهيك عن سطوة الاحتلال على رجالات الأحزاب الساعين لمرضاة مندوبه السامى (حادث 4 فبراير 1942 وحصار قصر عابدين لعزل ملك البلاد – نموذجًا)، الأمر الذى أربك من بعد العلاقة بين «ترويكا» الحكم (القصر – الأحزاب- الحركة الوطنية) طوال الأربعينيات، قبل أن يشهد مطلع العقد التالى (ثورة يوليو) من إعلان للجمهورية، وإلغاء الأحزاب.. مع استبدالها باحتكار واحدية التنظيم السياسى «المهيمن» الذى دام مع اختلاف مسمياته أو بإحاطته بأحزاب هامشية حتى العشرية الثانية من الألف الميلادية الثالثة، بذريعة التحوط من مخاطر الحركات السياسية السرية من اليسار المتطرف أو الإخوان المسلمين، أو مما سبق أطلق عليهم «أعداء الثورة»، التى شهد عقداها الأولان فى الخمسينيات والستينيات، إعادة التوازن النفسى والاجتماعى لطبقات جماهيرية مسحوقة، وإلى التسليح الحديث للجيش، وبناء قاعدة التصنيع، إلا من بناء «حياة ديمقراطية سليمة».. نادت بها الثورة فور قيامها ضمن مبادئها الأساسية، لكان من المفترض حال تحققها حماية المكتسبات الشعبية من التفتت- كما حصل- كآنية من فخار بمجرد رحيل بنائيها العظام، الأمر الذى أعيد تمحيصه بعد حرب 1967، لبناء حزبين كبيرين، للحكم والمعارضة، لولا أن حالت الغلبة الأوتقراطية دون تنفيذها، ولئلا يعلو صوت عن أوليات المعركة التى ما زالت – للمفارقة- قائمة رغم انتهائها عسكرياً فى أكتوبر 1973، ربما من أجل حماية النظام القائم طوال النصف الثانى من القرن الماضى إلى اليوم، إذ برغم المتغيرات التى لحقت بأضلاع التنمية الشاملة منذ مطلع السبعينيات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن المؤسسات البيروقراطية التى استحدثتها ثورة يوليو لحماية نظامها.. لم يلحقها التغيير، ما أتاح ربما لمظاهر سلبية الظهور، من تزاوج الثروة مع السلطة، وإلى تحلق شرائح أوليجاركية متنفذة حول الحاكم، وحاشيته، ما أضر بمجمل مسيرة الحياة المجتمعية السياسية، ومن ثم إلى تصاعد حالات السخط الجماهيرى فى 2011، التى استطاعت التنظيمات السرية التسلل من خلالها لإشاعة الفوضى واللااستقرار فى البلاد- لعامين متتاليين- لحين انتفاضة الشعب مؤيداً من الجيش فى يونيو 2013، التى أنقذت البلاد من مصير مشابه لجاراتها العربيات.. كاد يلحق بالمصريين، وليبدأ من بعد عهد جديد يصبو إلى إعادة الأمور إلى نصابها المفترض، فى صدارتها ضرورة التغلب على المعوقات التى حالت طوال قرنين من الزمان عن أن تتبوأ مصر مكانتها اللائقة بين الشعوب والأمم، سواء بسبب غياب الحياة الديمقراطية السليمة أو من مخاطر إسلاموية سياسية أو جراء فروق مجتمعية صارخة بين كل من الطبقات الكادحة.. والبرجوازية، ومن مظاهر السلوكيات الرثة من بعض شرائحهما، وما إلى غيرها من مثالب داخلية تتيح للخصوم من الخارج أو من داخل الإقليم.. التربص الحاصل بمصر عبر حصونها الطبيعية الأربعة، عسكرياً واقتصادياً وسيكولوجياً، ما يفاقم حالة اللاانتماء التى تعود إلى نحو قرنين من الزمان بالنسبة لتطورات الأوضاع الداخلية فى مصر.
من قراءة جيل الوسط لتاريخ مصر المعاصر عن تطور الأوضاع الداخلية عبر قرنين (1)
شريف عطية
10:32 ص, الأحد, 5 يوليو 20
End of current post