الإنسان والدول بين الأصل والطبيعة والأحوال ! (2)
الدول كالأفراد، قد تعتنق الحرية والديمقراطية فى إطار مجتمعها حتى النخاع، وتمضى فى تسيير شئون بلادها ورعاية شعوبها على منظومة الحرية والقيم الأخلاقية والدستورية والقانونية التى ارتضتها. ولكنه ارتضاء ناقص مبتور، لأنه محصور فى الداخل وكفى.. ما إن يغادره إلى الخارج، ويخوض لجج السياسة ومصالحها وأهواءها ومآربها، حتى تتلبس الدولة «حالة» غير «حالة» التى تدير بها شئون الحكم فى داخلها. راودتنى هذه الخواطر وأنا أتأمل حوادث فظيعة أليمة شنيعة صدرت عن أمريكا وفرنسا وإنجلترا أو عن الأمريكى أو الفرنسى أوالإنجليزى حين يصدر فى سلوكه عن دولته ويعبر عن سياستها ويخدم أغراضها. لا خلاف على أن فرنسا بلد النور والحرية، وأن تاريخها فيهما قديم يمتد إلى أكثر من مائتى عام منذ الثورة الفرنسية التى بلغت قمتها فى 14 يوليو 1789، وانتقلت بفرنسا نقلة هائلة نضحت على أوربا كلها إعلاءً لقيم الحرية والعدالة. ومع ذلك وجدت ذات الفرنسيين الذين يحملون فى حناياهم هذه القيم التى أحيتها فيهم ثورة الحرية الفرنسية ـ يقدمون إبان الحملة الفرنسية على إعدام السيد محمد كريم حاكم أو عمدة الإسكندرية فى 6 سبتمبر 1798، بقتله قِتْلةً بشعة على «الخازوق» بقلعة القاهرة فى صورة تحمل من الاشمئزاز ما يعيدنا إلى عصور الظلام. بذات هذا الأسلوب المتنافى تمامًا مع قيم الحرية والعدالة التى أتت بها الثورة الفرنسية، أعدمت الحملة الفرنسية سنة 1800 على الخازوق أيضا ـ سليمان الحلبى، ولكن بعد أن قطعوا وأحرقوا يده اليمنى، وعلقوا جثمانه مع ثلاثة من رؤوس شيوخ الأزهر نهبا للعقبان. الفظائع التى ارتكبها الفرنسيون بالجزائر وفى كثير من الأقطار المحتلة، لا تقع تحت حصر. الإنجليز ـ أصحاب الحضارة العريقة ـ ارتكبوا كوارث فى الهند وفى بلاد احتلتها الإمبراطورية التى لم تكن تغرب عنها الشمس، وفعلوا فى دنشواى (1906) ما يشيب له الولدان. نصبوا المشانق وحصدوا عشرات الأرواح وجلدوا البسطاء ـ كل ذلك أمام أبناء القرية ـ على ماذا ؟! على ضابط سقط مصابًا برأسه بضربة شمس وهو يعدو فرارًا من الأهالى الذين ثاروا احتجاجًا على استخفاف الضباط الذين خرجوا للصيد فأشعلوا النيران فى جرن القرية، ثم أصابوا بنيرانهم ثلاثة من الخفراء الذين لم يقصدوا مع شيخ الخفراء سوى كف ملاحقة الجموع. هذه العصبة الإنجليزية بزعامة السردار، هل صدروا فى هذه المذبحة النكراء (وغيرها كثير) عن الحضارة البريطانية، أم أنهم تلبستهم «حالة» صب فيها الغضب المغلق والغطرسة الضريرة والاستعلاء وتهاويم السلطان والهيمنة والإخافة والبطش والقمع للسيطرة وإحكام قبضة الاحتلال، وكلها شوارد نابية عن «الأصول» الطبيعية السائدة فى تعامل الحكم البريطانى ببلده ومع بنيه !.. كذلك فظائع ما ارتكبه ويرتكبه الأمريكيون فى أفغانستان والعراق وفى سجن بوغريب ومعتقلات جوانتانامو.. هذه الفظائع لا علاقة لها بالحضارة الأمريكية ولا بما جبل عليه الإنسان الأمريكى العادى فى حياته الطبيعية.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com