من تراب الطريق(970)

من تراب الطريق(970)
رجائى عطية

رجائى عطية

6:49 ص, الخميس, 5 نوفمبر 20

نعمة العقل

(3)

من المحال ثبات التغذية نوعًا ومقدارًا طوال عمر الآدمى .. لأنه كائن حى دائم التغير الواضح فى تكوينه المفروض عليه .. يخالف باقى الأحياء من ميلاده إلى أن ينتهى وجوده فى الدنيا .. رضى أم أبى. لا يتوقف تغيره إبان عمره، فى صحته ومرضه وصحوه ونومه وفى ظروفه جميعًا .. يجرى عليه ذلك بارزًا كان أو غير بارز، ويستمر جريانه عليه إلى أن يرحل عن الدنيا !

فقد جاء كل آدمى، شأن كل المخلوقات من الحيوان والنبات جاء بقدرة الله تعالى وخلقه له من العدم، لينتهى إلى رحيل محتوم عن دنياه .. فى خلال رحلته فيها تحفظه «الأنا» وتصاحبه وتقوده ما عاش على التزام هواها فى الأغلب الأعم، وقد تنفعه إن فطنت إلى رشد العقل ! وكثير الكثير ما آذته وتؤذيه إلى اليوم بإصرارها على التزام أهوائها التزامًا ساد للآن كل مكان فى الأرض، وبات صعب العلاج مع تراجع الأخلاق التى أهملها التعليم، وسيادة الطمع والأنانية، وعشق وتصيد المال بالبهرجة والادعاء وانعدام المبالاة بالأمانة وفقدان الاهتمام بمصير البشرية الذى لاحت للعقلاء المخاطر المحدقة به واستبانت للعيون اليقظة!

ربما لم يعد هناك رجاء اليوم لا فى كثرة التناسل ولا فى ضبطه أو قلته.. لأنه خرج عن معناه ورسالته، ولم يعد جادًّا يتغيّا إقامة الأسر وحفظها من التمزق والعداء. لذلك ذوت وهانت القرابات فى كل مكان!

وما أصاب التناسل أصاب أيضًا الصداقة والزمالة. نسى الناس المعانى الجادة التى كانت لهذه الاصطلاحات، وضمرت قيمتها التى كانت فى الماضى، وضاع مع سيادة الماديات وغروب العقل ضاعت الوشائج المعنوية، وانسحقت النفوس أمام السرعة التى غمرتها ومعها العقول التى تخدمها، ووهنت العلاقات الإنسانية بداخل الأسر بعامة، وطالت فيما طالت العلاقة بين الزوج وزوجه، فضمر أو تلاشى معنى السكن والعشرة، وانعكس هذا الوهن على علاقات الأبناء بالآباء والأمهات، وهانت مع أفول العقل والوشيجة معانى الأمومة والأبوة، وأخذ عقد الأسرة الإنسانية ينفرط إزاء زحف المال والماديات، وتوارى أو انسحاب دور العقل!

* * *

الاعتياد البشرى ليس ثباتًا كما تصوره ويتصوره أكثرنا .. وإنما هو تصوير لتأن وترتيب مستمر .. قد يميل وقد يستقيم .. يميل إلى الاسترخاء ويبالغ فيه، وإلى الشدة ويتمسك بها مخافة الضياع .. ويستقيم لكى يتقدم النوع منتقلا إلى طور للآدمى مخالف لسابقه مخالفة تكون تارة غامضة لدى أغلب الناس، وتارة مكتسحة فى وضوحها لا تخفى إلاّ على العنيد الشاذ .. لأن الآدمى كائن حىّ أكثر من حياة الأحياء الأخرى التى تعيش على هذه الأرض .. لا يكف هنا وهناك عن التنقيب والحرص على الانتباه فى هذا أو ذاك مما يراه .. ولأن الآدمى حتى الآن لم يشعر شعورًا حقيقيًّا بالكون إلاَّ نادرًا .. ولم يفهم حياته فهمًا حقيقيًّا إلاَّ نادرًا أيضًا .. فلم يعرف فى تقدمه وتطوره أنه فى دنياه وقتى .. يعيش فى وقتيات من تركيبة لا أول لها ولا آخر بخلاف الحيوان والنبات!