من تراب الطريق(883)

من تراب الطريق(883)
رجائى عطية

رجائى عطية

8:14 ص, الأربعاء, 24 يونيو 20

الأدب والفنون والسير الشعبية والجسور العربية (1)

طفت كثيرًا فى قراءاتى بتراثنا الحضارى، وطفت بالتراث الشعبى .. معتقداته وعاداته وتقاليده وآدابه وفنونه وسيره وملاحمه وأساطيره ومواويله وأغانيه وأشعـاره وحرفـه ومنتجاتـه .. وأن أجمع ما كان مبعثراً فى الذاكرة ـ أو المكتبة ـ من معلومات ومؤلفات متفرقة وضعها الأعلام ومن واصلوا من بعدهم، وبذلوا فى جمعها وتحليلها جهودًا مضيئة صارت بها ـ مع العمل الرائع لمركز توثيق التراث ـ فى متناول الباحث تبعًا لغوصه وتحليله لاستنطاق ما تراكم على مر الدهور .. قيمة هذا التراث أنه تعبير تلقائى عن الناس .. انبعث ـ كما ينقل رشدى صالح عن “ هويتمان “ ـ من عمل أجيال عديدة من البشرية من معتقداتها ومعارفها وأفراحها وأحزانها وضرورات حياتها .. أساسه العريض قريب من الأرض التى شقتها الفئوس، أما شكله النهائى فمن صنع الجماهير المغمورة المجهولة .. أولئك الذين يعيشون لصق الواقع !

لا يخطىء الجائل فى الأدب والفنون والسير الشعبية، كيف حملت أصداءً من هنا وهناك بالمنطقة العربية فى دلالة تلقائية واضحة على الجسور الممتدة بينهـا منذ فجر التاريخ، لم تمنع خصوصية الأدب الشعبى والفنون الشعبية فى بعض البلدان والأقطار، مثلما لم تمنع فى أقاليم القطر الواحد، من وجود قواسم مشتركة وأصداء متلاقية تورى بأن الأدب والفن الشعبى فى المنطقة العربية بعامة ـ دليل على اتصال وتواصل وامتزاج وتفاعل وانصهار لم يصنعه قرار، وإنما عبر تعبيرًا تلقائيا للإنسان العربى فى أدبه وفنه وشعره وسيره، شفاهةً وكتابةً، فقام هذا التراث شاهدًا تلقائيًا لا يستطيع أحد أن يغض دلالته على الجسور الممتدة فى قلب وأطراف المنطقة العربية والضاربة فى أعماق السنين .

ترى هذا الامتزاج شاخصًا وأنت تتابع كيف كانت مقامات بديع الزمان والحريرى مقدمة لنشأة « خيال الظـل » الذى كتب عنه الدكتور عبد الحميد يونس يقول : « المقامة فى أصلها أدب تمثيلى، وأنها من القيام فى دار الندوة إبان العصر الجاهلى »، و« أنها كانت تمثيلاً مباشرًا متواصلاً يقوم به ممثل فرد » .. عادت المقامة من حيث بدأت، وجعلت تتطور حتى دخلت المسرح عن طريق « خيال الظل »، ومنها جعلت تتطور فنون الفرجة والعرض المسرحى . موجات التأثر بهذه المقامات عبر خيال الظل وما أدى إليه، عمت أصداؤها المنطقة العربية طولاً وعرضاً .. ترى هذا جلياً وأنت تتابع ما كتبه الأستاذ فاروق خورشيد رائد الأدب الشعبى، فى كتابه الضافى « الجذور الشعبية للمسرح العربى » . فيه تتبع الموروث الشعبى وملامحه الدرامية فى القول والأحلام والكهانة والسحر والجنون، ينطلق من قاعدة أن التراث الشعبى شامل يعنى عالما متشابكًا من الموروث الحضارى، والبقايا السلوكية والقولية التى بقيت عبر التاريخ، وعبر الانتقال من بيئة إلى بيئـة، ومن مكان إلى مكان، فى المحيط العربى وفى ضمير الإنسان العربى . منذ مطلع التاريخ وهذه المنطقة ـ فيما يقدم فاروق خورشيد لعمله ـ مرتبطة ارتباطًا كاملاً باعتبارها بؤرة جغرافية موحدة المصالح والموقف التاريخى وتتبادل مراكز النقل الحضارى من الشرق والغرب والجنوب، وهذا التواصل والاستمرار فى تبادل المعلومة والمعرفة العامة، والإبداع الفكرى والفنى، كفل نوعًا من التزاوج العرقى والاجتماعى والفكرى، وجعل تبادل الفكر سمتًا عبر عن نفسه فى تراثنا الشعبى، وفى مسرحنا العربى .. يتابع فاروق خورشيد بحثه عـن الملامح المسرحية فـى المـوروث الشعبى فى كتابات الأقدمين ومعالجات المحدثين، وعن أثر الزار فى المسرح المعبدى، ودور « خيال الظل »، ماراً بما كانت تمثله فى القديم مجالس السمر وما يرويه القصاص الذى يحكى حكايات الماضى وقصص الأولين، ودور « المقامة » فى التمهيد للمسرح . هذه الانعكاسات التبادلية فى المحيط العربى قـد استلهمت السير الشعبية والأشعار وألف ليلة وليلة، وكلها ذات مضامين عربية، قدمت المادة العربية الشعبية التراثية للبدايات المسرحية الأولى فى المحيط العربى بعامة، متمثلة فى مسرح الشارع .. فى ملاعب اللهو والبهلوانات والسيرك والحواة الذين يلعبون بالثعابين ومروضى القرود، وملاعب المصارعين والملاكمين والمبارزين وضاربى الودع وفتح الرمل ونافخى النيران وأماكن مصارعة الديكة، وفى فنون المخايلة التى تمثلت فى خيال الظل وصندوق الدنيا والأراجوز وعروض فرق المحبظين، والتى ربطت

فى النهاية بين إرهاصات المسرح العربى الشعبى هنا وهناك ثـم بالمسرح بـل والأدب المعاصر الذى لا يزال للآن يستلهم التراث الشعبى العربى فى ألف ليلة وليلة وفى غيرها.

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com