مرتضى المراغى شاهدًا على حكم فاروق (33)
لم يكن الانتقاد الذى سمعه المراغى من الأميرة فايزة شقيقة الملك، هو الانتقاد الوحيد الذى سمعه من أحد المقربين إلى فاروق. فيضيف أنه قد حدث فى أثناء وزارة نجيب الهلالى الأخيرة قبل قيام الثورة ـ وكان وزيرًا للداخلية والحربية فى هذه الوزارة ـ أن جاءه كريم ثابت وكان يشغل منصب المستشار الصحفى لفاروق وكان معروفًا إلى جانب ذلك أنه واحد من أقرب المقربين إليه.. ولكنه فوجئ بكريم ثابت يتحدث طويلاً عن سوء الأحوال التى تمر بها مصر وسأله فى النهاية: كيف تسكت على كل هذا؟
قال له: وماذا تريدنى أن أفعل؟
قال: أرسل تقريرًا للملك بكل ما يجرى، بكل ما تسمع، بكل ما تحس.. بكل الأوضاع « الزفت » التى نلمسها.. فهى تدل على أن المصريين يتحدثون عن « الأوبرج » الذى يمضى فيه الملك كل وقته.. وكذلك وعن التعليقات التى تقال عن مكتبه فى نادى السيارات خلف موائد القمار !
قال المراغى وهو يحاول ـ فيما يقول ـ استكشاف أسباب حماسته: وهل أنت مستعد أن توقع معى هذا التقرير؟
قال متحمسًا: مستعد جدًا.
وبالفعل قام المراغى بكتابة كل ملاحظاته فى تقرير ضمنه كل الأخطاء التى يتحدث عنها المصريون.
ومنها سلسلة الوزارات المتعاقبة منذ حريق القاهرة، والتى لم تكن تسمح لوزير بأن يستقر ويحس بالهدوء الأمر الذى انعكس على الأوضاع العامة للدولة.
ووقَّع كريم ثابت التقرير مع المراغى. ثم أرسل التقرير إلى الملك بعد أن أخبر نجيب الهلالى الذى قال له مشفقًا: يا مرتضى يا بنى إبعد عن الحكاية دى دلوقتى.
ولكنه قال له: إن هذا واجب يجب أن أقوم به.
ولم يمض يومان على إرسال التقرير حتى اتصل به القصر يحدد موعدًا للقاء الملك فاروق فى قصر القبة فى الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم نفسه.
وذهب المراغى إلى الموعد وأخذ مكانه فى الصالون انتظارًا لدخوله إلى مكتب الملك.. وإذا به يجد كريم ثابت يجتاز الصالون مسرعًا وقد قدم من الخارج فى طريقه إلى مكتب الملك. ولا يعرف هل كان كريم ثابت هو الذى ترك باب المكتب مفتوحًا عن قصد، أو أن فاروق هو الذى أشار إليه بألاَّ يغلق الباب. ذلك أنه عن طريق باب المكتب المفتوح سمع صوت فاروق يقول لكريم ثابت فى غضب وثورة: اسمع يا بن (…) إزاى تتجرأ وتبعت لى تقرير بالشكل ده؟
كان واضحًا أن الحديث لم يكن موجهًا إلى كريم ثابت فقط، وإنما إلى مرتضى المراغى الذى اشترك معه فى توقيع التقرير وينتظر فى الصالون مقابلة الملك.
وبعد دقائق خرج كريم ثابت ونظر إليه وهو يغمز بعينه ويضحك.
كان من عادة فاروق عندما يدخل عليه أن يقول له: اتفضل.. فاجلس.. لكنه فى هذه المرة عندما دخل عليه لم يقل له هذه الكلمة، فأذن لنفسه بالجلوس.
قال الملك: وهو لا يزال منفعلاً: إيه اللى عملته ده؟
قال: أنا سمعت كل كلمة قلتها جلالتك لكريم ثابت وأرجو أن المناقشة مع جلالتك لا تدور على هذا الأساس.
قال الملك: لماذا أرسلت التقرير؟
قال: إننى كوزير اعتبر نفسى مستشارًا للملك ومن واجبى أن أوضح له حقائق الأمور.
قال فاروق: وهل تخاطب الملوك بهذه الطريقة؟
قال المراغى: الملوك يا مولاى تُنصح، وهذه نصيحة.
قال فاروق: ولكننى لا أسمح بذلك.
قال المراغى: هذا رأيك يا مولاى وهو يعنى أننى أخطأت: ولهذا فإننى اعتبر نفسى مستقيلاً.
قال فاروق فى انفعال: إنت فاهم أنى ما لاقيش 30 واحدًا غيرك.. أنا دلوقت هاكلم رئيس الوزراء يشيلك ويجب واحد تانى.
قال المراغى: أرجو أن تعتبرنى مستقيلاً منذ هذه اللحظة .
وخرج المراغى من قصر القبة وذهب إلى نجيب الهلالى ومعه خطاب استقالة. فقد رأى من واجبه إزاء رئيس الوزراء ألاَّ يرسل له الخطاب دون أن يقابله، خصوصًا أنه لا ذنب له فى ذلك. ولكن نجيب الهلالى أخذ منه الاستقالة بعد أن روى له ما حدث ومزقها.
قال الهلالى: لا.. ولو كان تكلم ما كنتش هاقبل.
قال المراغى: لكنى مصر على الاستقالة.
قال الهلالى رحمه الله: وأنا أيضًا مصر على عدم قبول الاستقالة.. ولازم يفهم أنه لا يستطيع (فاروق) بطيشه أن نحنى له رءوسنا.
وقد كان موقف نجيب الهلالى عظيمًا، وكنت أعلم من أبى رحمه الله ـ وكان من تلاميذه بالكلية ـ أن له مواقف ناصعة، وأنه وكل تلاميذه يبجلونه ويعرفون له هذا القدر.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com