النوبة قطعة غالية من قلب الوطن، كان يمكن أن يغيب موقعها الأصلى على الخريطة، وتغيب معه صورة الحياة فيها بتقاليدها وعاداتها ولوحاتها ورسوماتها ونقوشها، لولا عدسة متفطنة واعية، التقطت صورا رائعة للحياة فى النوبة قبل التهجير إلى المدن الجديدة فى كوم أمبو ومركز ناصر وإسنا.. وتلقفها المركز المصرى لتوثيق التراث الحضارى والطبيعى، ليضمها فى مجلد رائع إلى سلسلة متميزة أصدرها ومكتبة الإسكندرية لحفظ تراثنا الحضارى والطبيعى ثم حفظه على موقع المركز على الانترنت.
انطلق الفنان المصور أنطون ألبير الذى التقط الصور على مدار سنوات، ومركز توثيق التراث الذى نشرها بمجلده الرائع: «النوبة عبر عصرين» ـ انطلقا من حقيقة أن التراث النوبى يمثل خيطا هاما فى نسيج التراث المصرى الذى يمتزج فيه تراث النوبة مع تراث الصعيد وتراث الدلتا وتراث الواحات والصحارى فى سجادة واحدة ـ تراكم واكتمل نسيجها على مدى خمسة آلاف عام.
فضل حفظ التراث النوبى، يدين أولا إلى العدسة المبدعة المتفطنة للفنان المصور أنطون ألبير التى رصد بها مرحلة التهجير والاستيطان التى مر بها المجتمع النوبى، وحفظت خصائص البيئة الطبيعية التى عاش فيها النوبيون، وما تخللها وصاحبها من فنون وتشكيليات ورسومات ولوحات ونقوش وبيوت ومساجد ومآذن ومدارس ودور مناسبات وأسواق ومظلات وحلىّ وأوان فخارية ونحاسية وأدوات صيد وقنص وزينات وطنابير موسيقية وكثير مما تشكل منه تراث النوبة الحضارى والطبيعى على امتداد آلاف السنين.
بداية تعرض هذا التراث للبدد أو الضياع، كانت مع إنشاء خزان أسوان عام 1902.. وقتها كانت النوبة تتشكل من 39 قرية على طول 350 كم على نهر النيل. مع ارتفاع منسوب المياه خلف الخزان، تعرضت عشر قرى للغرق، ومع تعلية 1912 اختفت (18) قرية أخرى، وفى التعلية الثانية عام 1933، لجأ النوبيون إلى بناء مساكنهم على قمم الجبال، فلما شُرِعَ فى إقامة السد العالى، وبدا عام 1960 أن المتبقى من النوبة مهدد بالاختفاء فى البحيرة الصناعية خلف السد، بدأ تهجير سكان النوبة وتوطينهم فى الشمال بكل من كوم أمبو ومركز ناصر وإسنا.. وبدأ مع التهجير تنفيذ رفع معبد أبو سمبل ـ بعد تقطيعه ـ من مكانه إلى حيث تم إعادة تجميعه بأعلى الجبل قبل أن تغمره المياه.
فى هذا الانشغال بتوابع البحيرة وارتفاع منسوب المياه، طفق المصور الفنان أنطون ألبير يجوب قرى النوبة قبل أن تغمرها المياه، ليسجل الحياة والناس بطباعهم وتقاليدهم وعاداتهم ومنتجاتهم ومعالم تراثهم المتراكم عبر خمسة آلاف سنة.
مرت النوبة التى حفظت لنا تراثها الحضارى والطبيعى ـ عدسة الفنان أنطون ألبير، ومجلد مركز توثيق التراث الذى أفصح عن أنه مقدمة لمجلدات أخـرى سوف تتلوه، مرت ـ أى النوبة ـ بمراحل مختلفة فى تاريخها الطويل، إلى أن انتهى بها المطاف الجغرافى منذ القرن (18) إلى الأرض الواقعة على ضفاف النيل بين الجندل الأول بأسوان جنوب مصر، والجندل الرابع «بمروى» شمال السودان، وعلى امتداد نحو ألف كيلو متر جمعت بين المصريين والسودانيين فى إخاء عبر عن التمازج التام الذى شكله نسيج أهل النوبة.
سجلت عدسة الفنان المصور أنطون ألبير من سنوات، سجلت ووثقت جوانب عديدة من الحياة فى النوبة قبل التهجير وأثناءه وبعده، كما سجلت مراحل إنشاء السد العالــى، ونقـل مـعبدى أبى سمبل، وحفظت بالصورة ما يحمله تراث النوبة من خصوصية فى اللغة والفنون والآداب والعادات والتقاليد والمفاهيم وأساليب الحياة إضافة إلى الظروف التى مَرّ بها أصحاب هذا التراث من الأقدمين والمعاصرين.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com