من تراب الطريق (996)

من تراب الطريق (996)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:42 ص, الأحد, 13 ديسمبر 20

رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة

(4)

قد فقد البشر فى أيامنا هذه معظم معالم ماضيهم دون أن يحسوا.. كانوا جماعات يتميز بعضها عن بعض ــ ليس باللون واللغة فقط ـ بل بالمحافظة على العادات والأذواق والقيم. واختلطوا الآن حتى مع اختلاف البلاد والأقاليم اختلاطًا مزعجًا لسهولة طرق النقل أو الاتصال البرية والبحرية والجوية، وما يصاحب ذلك من تغير وسائل الكسب سواء برفع الأسعار تبعًا للإتقان والجودة، أو بخفضها بسعة العرض وإفساح المجال الهائل الواسع للتوزيع الذى لا أول له ولا آخر.. مما يتيح للبائع فى الحالين مكاسب هائلة مع الرخص النسبى لكل مشترٍ.. وتلك الحركة انكسر نجاحها اليوم فى الكثير من بلاد العالم، بسبب اجتياح البطالة وسقوط معظم العملات الورقية.. فطفق أغلب الناس يعانون أتعس صور الحياة ماديًا ونفسيًا، ولم يَعُدْ يوجد فى دنيانا الآن باقٍ حقيقى من الجد الذى يُحسُّ فعلاً ــ اللهم إلاّ الحيرة والأسى وعدم الثقة وقلة الذمة وكثرة الكلام والإيهام والاتهام!!

هذه العتمة الكثيفة لم يوجد مثلها من قبل.. ربما لأن البشر لم يصلوا من قبل إلى ما صاروا عليه الآن من كثافة اللدد والغرور الآخذ بخناقهم فى مثل هذا الضيق الذى يسد مسالك الفرج فى كل اتجاه أمامهم. فهل تتاح لهم فرصة تجربة الاستعانة بالفضاء الواسع وأحكام الاتصال الواعى المثمر المستمد بالكون؟!

إن إطلاق الآدمى لعقله من قبضة « الأنا »، بمطالبها وأهوائها ـ حرىّ به أن يحقق له رؤيـة ما تخفيـه «الأنا» مما هو وراءها وأمامها. وهذه الرؤية هى رؤية الكون بعين الآدمى الضئيلة، التى لم يُنمها بعد حتى الآن لقلة استخدام « الأنا » للعقل فى أغراضها وعدم انصياعها لأحكامه فى الأغلب الأعم.. والتفات الآدمى لهذه الحرية فى النظر والفهم ــ وبلا استخفاف وكبرياء ــ مكسب هائل يخلصه من ربقة الأرض إلى سعة الكون وينسيه حتمًا مطامع « الأنا » ومخاوفهـا التى كونتها عادات وأعراف لا أول لها ولا آخر!

نقول ــ هذه الحرية الفعلية المنطلقة من أسرها تتجاوز رحاب «الأنا» الحالية كما نحسها ونعرفها الآن. دون أن تلغى وجودها أو تخمد فردية الآدمى فيها، بل ترتفع إلى مساواة « الأنا » كصديق عاقل ورفيق لا غنى عن الإنصات إلى حكمته والأخذ بها لأنها لا تنحاز إلى غاية شخصية ما ــ بل تتخطى هذا الحائط القريب القديم جدًّا الذى يقف لديه حتى الآن عموم البشر.. لأننا بعامة نكتفى بإجلال عموميات الفضائل التى وافقنا عليها ـ دون أن نحاول جادين الالتزام بكل معانيها تفصيلا.. رضيت «أنا » كل منا أو لم ترض. فموقف جميع البشر ــ موقف أنانى إلى الآن ــ تختلف أنانيته بين الآدميين درجات كثيرة فى هذه الجماعة أو تلك وفى هذا العصر أو سابقه!

فتخلصنا من أنانيتنا الفائقة السائدة الآن وفى المستقبل القريب ــ واجب ضرورى مُلِحّ لبقاء البشرية ـــ إن كنا جادين فى ألا يهلك هذا الجنس إلى غير رجعة.. إذ لا يكفى لبقاء الحضارة البشرية تقدم الصناعات وتطورها وتقنيتها الهائلة لأغراض الآدميين فى كل اتجاه.. ذلك لأنها لا تقابل قط من جماهير البشر بعمق الفهم والإدراك واليقظة، بل تجتذب الجماهير إليها بالإغراء أو الإغواء السطحى الأنانى لأجل إشباع الكسب ثم إطفاء الرغبة.. فهل يمكن فى مستقبل قريب أن يتوقف هذا التقابل والتبادل الشديد الإيذاء والإفساد مـن الجانبين ؟!.. لا ندرى!!!

ثم من آلاف السنين كانت الصناعة والتجارة ــ ومازالتا حتى اليوم ــ من حرف المحترفين للكسب المادى والتوسع فيه بين الجمهور المحتاج أغلبه إلى ما يلزمه، وبين الخاصة والأغنياء المشوقين إلى التجمل والتميز والابتكار والافتخار.. لا مدخل فى ذلك كله إلى العقل وحده، بل إلى العقل كخادم للبائع المتكسب وكخادم للمشترى المحتاج أو المشترى الثرى أو الذى يظن أنه فى طريقه إلى الثراء.. ولأن الاحتراف مقصده الدائم والأول هو الحصول على الرزق ــ فإن عنايته بالعقل والدين والقيم والأخلاق تكون محدودة حتمًا، بينما تكون علاقاته بأنانية الفرد ومصالحه الفردية قوية.. لا يمكنه أن يتخطاها إلى سواها.. وعلى المحترف أن يراعى الحرفة ومعها ما أمكنه أن يصل إليه من العقل والدين والقيم والأخلاق، وربما يكون لتغاير قوة هذه المصالح لدى المحترف ما يعطيه بعض الحق الشخصى فى التفضيل أو التقديم أو التأخير بينها!!