زحف الدنيا وصفاء الإيمان!
(5)
من أداءات العقول تتسرب اتجاهات لا نحفل بها فى حينها، لكنها قد تتجمع وقد تقوى وقد تسيطر على هذا الجانب أو ذاك من جوانب حياة الأحياء الآدمية.. بات هذا واضحًا فى نظرتنا التى صارت اليوم فسيحة نسبيا عما كانت عليه من قبل.. هذه النظرة التى جعلت تتجه إلى الكون بقدر من الجد والتعمق الذى نرجو أن يستمر فى نموه فننسى الكثير من ماضينـا ومـن حاضرنـا الآن ـ نسيانًا لا رجوع إليه.. لا نتوقف عنده كما نفعل اليوم مليئين بالتيه والزهو والكبرياء على أجناس وأنواع وطبقات وأسر الحيوان والنبات التى نعرفها على أرضنا.. معتقدين أننا نحن البشر سادتها بلا منازع.. متجاهلين دوام الحماقات التى وقعنا ونقع فيها وشواهد ومعالم القبور وزوالها من مواقعها باطراد دون أن تختفى معالم الموت من غوغاء حياة الأحياء!
ونحن لا نعرف ولم يعرف آباؤنا وأمهاتنا المباشرون وغير المباشرين ـــ حقيقة خصال أحدٍ منا.. لأننا جميعًا ـ منفردين أو متعاونين ـ لا نصنع أنفسنا.. وإنما نحن نولد ونلد ونتناسل فقط.. ولا تتدخل إرادة أى منا أو تمنياته أو أشواقه فى تكوين المولود ذكرًا كان أو أنثى.. قد تقارب العشرة والطفولة والصبوة والمراهقة بين عادات وحاجات ومقاصد ومطامع أفراد الأسرة، ولكن دون أن تبلغ إلى أعماق الحىّ !.. لأن هذه وتلك يمكن أن تختلف اختلافًا تامًا عن أعماق الوالد والوالدة والإخوة والأخوات.. كم برز ويبرز من أبوين مجهولين أو كانا مجهولى أو معلومى الحمق والمجون وموات القلب ــ ابنٌ سيد كريم عاقل بار مصلح نافع للناس قريبهم وبعيدهم.. أو كما يقال : « يخلق من ظهر الفاسـد عالـمًا ».. وكم لا يبالى خلق الله فى سطحيتهم الهائلة أو فى زهوهم وغرورهم بما لديهم من نفوذ وآمال ــ لا يبالون بالكثرة الكاثرة المكافحة التى لا تكاد تفيق من المعاناة المادية والمعنوية ولا تتبين أملاً أو رجاءً يمكنها فى يسر مطرد أو سعة من رفع قيمة ومنزلة الآدمى الشريف المكافح الجاد فى عمله وسلوكه!
يتفق البشر جميعًا ويختلفون فى ذات الوقت.. ولكن لا يثبت الاتفاق والاختلاف على حاله قط.. وهم دائمًا عرضةٌ فقط للتشابه الذى يفسح المجال دائمًا لظهور الاختلاف، لكنهم يرجعون فيتفقون على ما اختلفوا عليه إن فطنوا إلى صحته أو إلى تصور صحته.. وهو ما يفتح أمامهم دائمًا الفرص للتغير أو التطور مع الابتهاج بحصوله ثم الغضب منـه والضيق به والرغبة فى الخلاص من التزامه !..هذا القلق الذى لازمنا ويلازمنا حتى الآن ــ راجع إلى شـيوع التقليد واستحسان المحاكاة فى الاختيار.. لأن السطحية غالبة على طبائع البشر فى سائر الأعمار والأحوال !
ورضانا كبشر.. هذا الرضا الغالب فى نفس كل منا لدى جميع المستويات والطبقات.. يساعدنا بشدة على تمسكنا بالحياة تمسكًا يصر عليه كل منا إلى درجة التشبث الذى لا يعرف له آخر.. هذا التشبث يصير سلبيًا برغم شدته وعمقه إذا اشتد به الإصرار والتعلق بالحياة والتشبث بها إلى حَدّ الابتعاد عن فهم معناها وحكمتها.. هذا التشبث الغالب فى نفوسنا يحتاج دائمًا إلى عوامل أخرى إيجابية تدفعه أو تحاول دفعه باطراد ـ بطىءٍ أو سريع ـ إلى تغيير أحوالنا وانتقالنا جسمًا وعمرًا وعقلاً وعادات ومشارب بما نسميه نحن بالنمو أو الشباب أو النضج أو الكهولة أو الشيخوخة. وبما قد يجىء معه بعض الهدوء والرزانة والتأمل والاحتياط والعقل، أو قد يجىء معه بألوان من العناد والإصرار والجرأة والمغامرة والمجازفـة.. لا عاصم للآدمى فى هذه أو تلك إلاّ عمق وصفاء إيمانه وإدراكه بهما للمعنى الحقيقى للحياة.
ومن قديم وللآن، نلحظ أن التكوين التركيبى للجماعات البشرية المتقدمة اقتصاديًا وعسكريًا ــ مفكك ضعيف الترابط إلا فى الشدائد والملمات!.. إذ أساسه اعتماد أفراد الجماعة على المنفعة المباشرة للفرد.. وهذه تختلف فى كل طبقة وما فوقها وما تحتها.. وهى بعد زوال أو تفكك الدول الاشتراكية، قد عاد إليها ــ إلى هذه الدول ـ تصدر طبقة أصحاب المال.. وقد انفرد هؤلاء بالصدارة بعد انقراض الأكابر والأشراف، واجتذبوا بالمقابل الضخم الفخم ــ أعلام العلوم الوضعية وأسرار الصناعات والزراعات والتراكيب والاختراعات والأسلحة والآلات والمراكب والطائرات والسفن، وتملكوا المعامل والمراصد والمراقب التـى لم يسبق لها نظير من قبل، وتصدروا لاستخدام الفضاء فى التعرف على إمكاناته وزيارات كواكب الشمس بعد أن سبق نزول البشر إلى القمر ــ وفى ملء الفضاء المحيط بالأرض بأجهزة الرصد والتليفزيون الذى يمطرنا بمعلوماته صباح مساء.
وقد نسى أولئك الأقوياء الأغنياء .. نسوا تمامًا بلايين الأحياء المكافحين الذين يسعون من أجل القوت وإطعام وكساء الأطفال أو من لا تقوى من النساء على المشاركة فى متاعب ومعاناة الرجال فى الأعمال الشاقة بالأجر الزهيد، أو حين لا يجدن فرصة المشاركة مع مرارة الكساد أو البطالة.. أو حين يفاجأ الجميع بهذين البلاءين!
لذلك اختل التوازن بين أصحاب الأموال وأتباعهم ممن كوفئوا ويكافأون بذلك المقابل الضخم الفخم وبين عباد الله من الفقراء والمعدمين الذين لا أول لهم ولا آخر !.. المكتوب عليهم بين آن وآخر شقاء البطالة والكساد.. لأن أصحاب الأموال لا مصلحة لهم ولا غاية فيهم تقتضيهم إمدادهم بالغوث أو المساعدة الجادة.. اللهم إلا التبرع بإطعام الجياع والمن عليهم من وقت لآخر بما اعتادوه ويعتادونه منهم!
أمام هذا الزحف الذى أخلّ بالموازين، وضَرَبَ الفقراء بسهام الحاجة والتعاسة والشقاء.. وضَيَّق الدنيا عليهم بما رحبت.. لا بد أن يبدأ التصدى له فورًا، ودون تلكؤ أو مماطلة.. بشىء شامل عميق عاجل يغير بالإيمان والإخلاص هذا الكيان البشرى الحالى بغوغائه وأقاويله وأفاعيله وألاعيبه وآلامه ومآسيه وأحزانه ونكباته التى تعرضه للزوال !.. هذا لازم وضرورى، وليس عنه محيص، إذا أراد البشر أن يقيلوا أنفسهم من هذه الحال الضيقة المعتمة، وأن يأخذوا بأيديهم كجنس متماسك متفاهم.. يتعاونون على الأرض وفى الكون كأجيال من البشر.. أجيال عامرة بصفاء الإيمان.. تتخلى عن الأنانيات والشهوات والأهواء وإضاعة الأيام والأعمار فى الجرى وراء الأوهام والأحلام فيما لا طائل ولا جدوى فيه.. لا يجدى البشر فيما هم فيه ــ تصيد المال أو القدرة على الافتعال والانتحال أو الخبرة فى التأجيل والتبديل والتعليل والتمثيل.. فقد امتلأت حواصل وأجواف الخلق من ذلك ما فاض وأمض وأيأس وأتعس، ولا سبيل للخلاص من هذه الوهدة إلاّ بإيمان عميق صادق، ورؤية صافية تتعامل بفهم وإخلاص مع هذا الواقع المرّ الذى حاصرته زيوف الدنيا، وتخرج بالبشرية إلى مرفأ الأمان.. والله سبحانه وتعالى يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com