من تراب الطريق (965)

من تراب الطريق (965)
رجائى عطية

رجائى عطية

6:34 ص, الأربعاء, 28 أكتوبر 20

زحف الدنيا وصفاء الإيمان !

(3)

الرغبة والأهواء وكذلك الأطماع والمخاوف وأنواع وألوان اليأس والتدمير ـــ هى كلها أحوال تتداول الآن بكثرة لم تشاهد من قبل لدى البشر أينما وجدوا.. زادت وكثرت هذه الأحوال نتيجة الاستغراق فى استغلال العقول واستخدام حيلها التى لم يعد لها حدود فى جميع المجالات والمستويات، ولم تجد هذه الحيل ضابطًا لها يوقفها أو يلطفها !.. فهل يمكن أن يفتح لنا باب الاتصال والتعامل مع الكون العظيم بابًا يوسع آفاقنا ويحد من هذا الجنوح ويجعل أغلبية الآدميين يحكمّون عقولهم أولاً وأخيرًا فى العالم الواسع الذى فطنوا أخيرًا إليه وإلى قيمته التى ليس لها حد.. هذا التفطن الذى لم يأت إلاّ بعد دهور ودهور لا أول لها ولا آخر من الاستغراق فى عبادة هذه الأرض وفيما تعطيهم من الغلو والكبرياء والقسوة فى جانب، ومن الفقر والفاقة والجهل والهلاك بغير مقابل فى الجانب الآخـر الأكثر عددًا وآلامًا وشقاءً وإهمالاً وتجاهلاً!

علمًا بأن كافة علماء وأقطاب العلوم الوضعية الحالية فى بلاد العالم جميعًا.. هم ومدرسوها ودارسوها فى المدارس والمعاهد والجامعات والمعامل ــ لا يخدمونها إلاّ لكسب المال كشأن القائمين على تطبيقها واستخراج ما يمكنهم استخراجه منها من المواد والأدوات والأجهزة والماكينات فى المعامل والمصانع والصيدليات والعيادات والمستشفيات.. لا يتخلصون فى خدمتها من هذا الحرص على كسب المال من أهل المال والحكومة والصناعة والتجارة والمهن والحرف، ثم من أجل انتشار الشهرة والسمعة ودوام الاختراع وترويج ما يرى أصحاب الشأن والمصلحة ـ ترويجه وإقصاء ما ينبغى فى نظرهم التخلص من وجوده أو من ترويجه.

فما تزال «أنا الآدمى» مسيطرة سيطرة تكاد تكون مطلقة على العلوم الوضعية ونتائجها وآثارها وأغراضها البشرية الحالية سيطرتها على عواطف الآدمى وآماله وأحلامـه.. وعلى متاعبه وأعبائه ومخاوفه وأحزانـه وويلاته.. لأن «ذات » أو «أنا» كل آدمى بغير استثناء ـــ «إلاّ الأنبياء فى نبواتهم» ــ تتحكم وتتسلط عليها أطياف حلوها ومرها من قديم الزمان دون مقاومة تذكر.. لأننا لم نشهد إلاّ هذه الأرض.. ولم نعرف معنى الكون العظيم حقيقة حتى اليوم برغم الخطى الحديثة الهامة التى خطاها القلائل فى السنين الأخيرة.

يجب أن يتحرك معظم البشر جادين مصرين مستبسلين ــ إلى نقل اهتمام معظم ما نشعر به ونحافظ على استمراره وتنميته فى حياة كل منا حاضره وأمله ومستقبله ــ إلى الاندماج باطراد فى الكون.. وسيلتنا الأولى والأخيرة ثقتنا فيما منحنا من قدرة عقولنا وإمكاناتها ملتفتين إلى الحرص على تجنب تدنى العقل، وتحاشى استعباد قدراته واستخدامها فى الجرى وراء الأوهام والأحلام الكاذبة التى قواها وسلطها علينا الانحصار فى قبضة الأرض وفقدان القدرة على التبصر بهذا الكون العظيم الذى طفقنا الآن نرتاده ارتيادًا من المنتظر أن يتسع على مر الأيام ونمو واكتشافات العلوم.

والآدمى دائمًا ابن عصره هو.. خيّرًا كان أو غير خيّر.. عاقلاً أو غير عاقل.. عالمًا أو جاهـلاً. لا يمتد عقله كثيرًا ولا خيره أو علمه إلى العصور التالية لعصره إلاّ جزئيا.. تتضاءل جزئية امتداده كلما زاد توالى العصور وزاد معها تأخر عصره وزاد ابتعاد ماضيه.. وهذا الانسحاب أو التراجع من خصائص حياة كل آدمى بغير استثناء.. فيتقادم شيئًا فشيئًا معظم ما كان فى أيامه جديدًا فيدركه القدم أو الانطمار.. ويحل ما جد أو استجد مكانه من الأحياء والأجيال الجديدة محل الكثير من سابقه وماضيه.. هذه قسمة أو حظ الآدمى الجديد الحىّ فى تكوين حياته.. وهو لا يستطيع مهما اجتهد فى التمسك بالماضى أن يحول دون ظهور الجديد وتسيد هذا الجديد على ماضيه وماضى آبائه.. ربما لطفت القرابات من الشعور بهذه التغيرات المتتالية مع توالى الأزمان والأجيال.. يظن الآدمى ويتخيل أنه مازال يجرى على ما كان عليه هو وآباؤه وأجداده، وأنه تجمعه وإياهم نفس الدنيا ونفس المعالم، وأن الحياة باقية كما هى لم يتغير فيها شىء، مستمرة فى بقائها واستمرارها وثباتها برغم خطو الزمن الذى لا يكف عن الزحف والتقدم فى العمر الذى لا ينقطع لكى ينتهى.. ولكى تسير البشرية بتغيير وتجديد الأحياء وإزالة الأموات.. فلا يبقى من هؤلاء إلاّ بعض الأسماء وقليل من الأخبار والآثار يرددها بغير دقة من يأخذ مكانهم، أو يذكر القليل من الباقى من سيرهم المتداولة.. فبقاء أى منا على هذه الأرض منذ وجدنا أنفسنا.. مبنى على دوام صوره من التكرار على دوام الأعمار.. فهذه مهما طالت فى نظر بعضنا وقتية محدودة وزائلة بالحتم!