زحف الدنيا وصفاء الإيمان !
(2)
ربطنا المباشر بالكون العظيم بعيدًا عن الأرض التى لا تبدو من الفضاء إلاّ نقطة ضئيلة باهتة زرقاء، أو كما نرى القمر، أو كما نرى بالعين أو بالمنظار توابع الشمس.. هذا الربط لا يبعدنا ولا يمكن أن يبعدنا عن الزمان والمكان والحركة الجارية المستمرة فى أفلاك هذا الكون العظيم!
ولم يلتفت الآدميون التفاتًا جادًا واعيًا فاهمًا إلى الكون العظيم ـــ إلاّ حديثًا جدًّا.. بدأوا محاولات الانتقال إلى الفضاء المحيط بكوكبنا، ثم العودة منه إلى الأرض، ومع هذه الرحلات تيقظ بعض علمائهم والمتابعون لهم إلى سعة الكون سعةً هائلةً بغير حدود، وأقدم بعض حكامهم على المغامرة بإيفاد من يصل إلى سطح القمر.. قمر الأرض.. ليعود منه إلى الأرض بما أمكنه جمعه من سطحه الذى مشى عليه ـ من أجسام وصور وقياسات وهو مصون فى غلاف حفظه فى رحلته ومَكّنه من الحياة والحركة واليقظة والانتباه والوصف الدقيق لما شاهده هناك!
وقد تتكرر أمثال هذه التجارب مرات ومرات بالمركبات الآلية المبرمجة الخالية من الآدميين، التى نقلت من الأمكنة التى شاهدتها عن قرب ـ ما سجلته منها فى رسائل متتالية بغير انقطاع إلى منظريها من العلماء والفنيين المتابعين من على الأرض.. وكلما أتقن العلماء والفنيون اجتهادهم فى المزيد من إحكام استبصارهم ــ كلما شغلهم الكون العظيم وآياته المبهرة ـــ عن الانحصار فى المشاغل الأرضية التى لا أول لها ولا آخر.. هذه المشاغل التى تشغل عامة البشر وخاصتهم فى شئون حياة كل منهم التى ما زالت فى قبضة دنيانا حتى الآن!
فهل سيأتى يوم تتزايد فيه هذه الرحلات المكوكية إلى الفضاء فى مواعيد وتنقلات منتظمة تطلع الأرض على آيات الكون العظيم، وتغير اتجاه البشرية تغييرًا جادًا يرينا جديدًا عما ألفناه وألفه آباؤنا من الانحصار فى الكرة الأرضية والتى يلامسون فيها ازدياد الضيق ووطأة الكساد وجحيم الاضطرابات والثورات والحروب والويلات!
إن توالى السنين قد مهد وأعد عقل الآدميين للنمو المطرد من جيل إلى جيل، وبات الآدمى يستخدم عقله أغلب الأوقات ـ فى قضاء وانتهاء وانتظار حاجاته ورغباته وأطماعه وخصوماته وعداواته، فنقص بهذا النمو ـ اقتداره على الاحتفاظ بالإيمان الفطرى البسيط الذى عاش به وعليه من جيل إلى جيل.. ثم إذْ به يكاد أن يختفى، وأخذ مكانه أو حل محله لدى المجموع ــ صور الإيمان العقلية أو المأثورة أو التى حفظها كبار الأوائل ورددها عنهم المسالمون من البشر.. يتلوها الخلف عن السلف لتسكن نفسه ويمضى فى حياته وطريقها ما مضى من أمثاله فى زمنه.. قد يجيد الاحتجاج بالآيات والرجوع إلى الأصول والركون القولى على الأسانيد، ولكن دون أن ينسى مطالبه ورغباته ومصالحه وآماله بل أطماعه، ودون أن يغفل عن خصوماته وعداواته، ثم إذا به رغم ما يردده ويتفاصح به ـ يضطرب اضطرابًا شديدًا لمجرد التفكير فى متاعبه ومخاوفه وهمومه وشجونه.. لأن دنياه العارية من الإيمان الفطرى البسيط ــ وإن زخرت تارة بالثقة والجرأة، إلاّ أنها تزخر تارات بالهواجس وأخطار المصائب وانتظار الكوارث والنكبات !
ويبدو أن المؤمنين الأول فى قديم الزمان الذى نعرف بعضه الآن ـ كانت صلاتهم بالدنيا أضعف كثيرًا جدًّا من صلاتنا الشديدة الآن بها نحن وآبائنا.. وذلك لا مناص منه فيما يبدو نتيجة نمو العقول وانصرافنا أولاً وأخيرًا لدنيانا بعد أن صار الإيمان الفطرى أثرًا أو قشرًا فقط .. قد نتبادله ونزيّن له المعابد ونفخم ونكرم له الكهان والأحبار والخدام والأتباع للملل وللنحل.. من قرون قد صار ذلك كله تدريجيًا مجرد طقوس.. قد يؤديها الناس ولكن بلا عمق إيمان أو إصرار عليه.. يحدث ذلك فى المواسم المألوفة أو فى الأوقات أو المواعيد أو الأعياد والمناسبات المقررة لها، صلاحًا أو اعتيادًا أو عرفًا.. بصورة أقرب إلى الاحتفال الاجتماعى الذى لا روح فيه ناهيك بالإيمان!.. فمن عصور طويلة لم يعد لهذه المواسم إلاّ خيال الإيمان بالدين الذى تنتسب إليه هذه الجماعة أو تلك، وهو خيال لا روح فيه لذلك الإيمان الفطرى القديم الذى كان القدماء عامتهم وخاصتهم تحسه وتتهيبه بعمق.. ثم تحللت هيبته باطراد خلال القرون إلى يومنا هذا !.. حدث ذلك الوهن نتيجة المداومة على اطراد استخدام البشر للعقل فى مطالبهم وأشواقهم وأغراضهم ومخاوفهم، استغلالاً لاينقطع فى هذه الأغراض والمآرب دون أن يعنى أحد بخدمة وتنميـة العقل ذاته لأغراضه هو التى بها يكبر ويرقى ويستنير.. ولم تسع العلوم والمعارف الوضعية حتى يومنا للاستفادة بهذه الخطوة العظيمة.. فمازالت هذه العلوم والمعارف برغم قفزاتها المطردة التى تزداد مرونة واتساعًا ـــ مازالت مندسـة غارقـة مغمـورة فى الأغراض والمصالح والمخاوف والأحقاد التى لم نتخل جميعًا عنها فى حياتنا حتى الآن!
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com