من تراب الطريق (931)

من تراب الطريق (931)
رجائى عطية

رجائى عطية

6:31 ص, الأربعاء, 9 سبتمبر 20

الحياء والحكمة فى الإسلام

الشعور بالنبل الذى يملأ صفحة وجدان المسلم السوى، شعور حاضر لا ينقطـع.. لا يفارقه قط النفور من السخف واللغو، ومن الاستهتار وعدم المبالاة.. وهو نفور فطرى إلهى يشعر به العقل حين يمتلئ بقيمته وبإخلاصه للحق عز وجل. هذا النفور من السخف واللغو، هو الحياء أو هو لب الحياء.. هو الذى يصد العاقل الحىّ عن أن يصدر منه ما يعيب.. أو فيه شىء من عدم الرشد أو عدم الإخلاص.. أو يعبر عن ابتذال ـ مقصودًا كان أو غير مقصود ـ لنور العقل ونزاهته..أو ينطوى على غفلة من حضور الله تعالى ونظامه فينا وفى الكون كله.. هذا النفور الفطرى ـ الإلهى ـ نعمة من الله عز وجل.. تختلف فيه حظوظ الأفراد وتتفاوت أنصبتهم فيها. ومن المستحيل أن يُحْرم من هذا النفور من طُوِىَ قلبه على تدين حقيقى.

وهذا ينقلنا ـ فيما يرى أستاذنا محمد عبد الله محمد بكتابه الضافى فى معالم التقريب ـ إلى ميدان فسيح لا يزال العلم الوضعى يهمله حتى الآن، ألا وهو ميدان « الحكمة ».. وهى تلك اليقظة إلى العناية بالأمور الأساسية فى حياة الإنسان والتى تقع ـ نظرًا لثباتها ـ خارج مجال اختلاف الأذواق والمشارب والأفكار والآراء.. تلك اليقظة الهادئة التى يعطينا إياها الوعى والالتفات إلى قيمة الإنسان ومسئوليته، وحرصه على التعاون بفهم وإحساس مع الحياة والأحياء.. فالحياة معنى جليل يجاوز فرديتنا، موجود قبلنا وباقٍ بعد مماتنا..

فى ميدان الحكمة ملتقى رحب يتلاقى فيه الإحساس والحدس والبرهان، ويمتزج العقل والقلب، وتتعايش القيم والأخلاق والمبادئ والمعارف والقضايا والحلول والسلوك والفكر، ويسترد الإنسان وحدة وجدانه التى تتعرض للتفتت والتشتت والانفصام والانشطار فيما يصادفه من الاعتراك والتصارع !

ومع أن زماننا غاص بالمعتقدات والمصدقات، إلاَّ أن هذه وتلك ليست صورًا وكيفيات للتعلق بالحكمة والتفطن إلى قيمتها.. بل هى فى الغالب صور لابتعاده عن الحكمة ورفضه إياها.. تغذى فى الآدمى دون أن يشعر ـ مصادر الفجاجة والاندفاع والحول، وتوقف النمو العقلى والعاطفى، بل وقد تدعوه إلى الغض من قيمة هذا النمو والاستهانة به، وربما السخرية منه!

ليس من حقنا كمسلمين، ولا هو من الفطنة، أن نرفض زماننا وأن ندير ظهورنا للحضارة الحالية.. وليس فى ذلك انقياد أعمى يساوى الطالح بالصالح من مفرزات هذه الحضارة.. فلا مراء أن فيها النافع وأن لها مضارًا.. وأن واجبنا يقتضينا أن نفهم بإنصاف، وبغير جمود وتعصب، مواضع النور ومواضع الظلمة فى هذه الحضارة.. وأن نأخذ بما يفيدنا ويتوافق معنا، وننبذ ما عداه.. دون أن نغفل عما فى هذه الحضارة من ميل هائل نحو العناد والإصرار، يزداد وضوحًا بين الكتل والجماهير، وهذا هو مكمن الخطر الذى يتهدد مصير الإنسان، ما لم يميز بالحكمة ويستبصر طريقه متخليًّا عن العناد لنواميس الوجود أو نقض قوانين العقل!

من المهم أن نفطن إلى أن التشويش بدوامات الدعايات التى تملأ الدنيا، يساهم فى خداعنا لأنفسنا وخداع بعضنا بعضا، ويساعد هذا الميل إلى العناد الملازم للحضارة الغربية التى تؤدى دعاياتها المفرطة، إلى اختلاط الغرور بالكرامة، والاندفاع بالانطلاق، والإغراق العاطفى بالتطور، وتصنيف الحكمة والروية فى باب الجمود والاستسلام ومعاداة التقدم.

ولن تكسب الدعوات الإسلامية شيئًا من الدخول فى تلك الدوامة المدمرة، التى تغذى الشعور بالعنف، وتصب المزيد من اللهب على الاندفاع، وتوقظ الخلافات القديمة والحديثة لزيادة الحول والفجاجة العاطفية والعقلية. فهذا التلبيس الكثيف، يجرى فى خط مضاد ومعارض للخط الرئيسى للدين، وهو لا يتورع عن إساءة استخدام مصطلحات الدين وتوظيفها لما يريد، حين يحرفها عن مواضعها فيصف العناد بالإيمان، والإصرار الضرير بالإلهام!!

ينبغى الالتفات إلى أن هذا كله، مهما أظلم واستشرى، لا يمكن أن يعدم نهائيًّا شوق الإنسان للنمو والنضج، ولا أن يميت حنينه إلى الحكمة.

إن أى آدمى، متى تحقق له الهدوء ووجد من يثق فيه ويأتمنه، قمين أن يسمع هتاف هذه الأشواق فى أعماقه، وقمين أن يلبيها ويستجيب لها. مشكلة النفوس فى زماننا وفى كل زمن ـ هى دائمًا مشكلة ثقة وأمانة وتنمية الثقة والأمانة. على دعوات التقريب بين المذاهب، وبين الأديان إن شئت، أن تواجه هذه المشكلة مباشرة وبلا مواربة، وأن توقن معها أنها ستكسب حتما إذا أبعدت نفسها بوضوح وصراحة عن ذلك التلبيس وتلك الدوامة، ووقفت بوضوح إلى جانب الحكمة وإعلاء كلمتها، ودعت الجميع والشباب خصوصًا إلى أهمية التعلق بها والحرص عليها.. وتزداد فرصة تحقيق ذلك حين تقترن الدعوات بنماذج إسلامية حية موجودة بالفعل تحقق فيها ولديها النضج العقلى والعاطفى، واجتمع لديها الصبر والروية والاعتدال وضبط النفس والإخلاص لما تعتقد أنه الحق والخير، ولا شىءٍ سواهما، وأعلنت عن هذا الإخلاص بسلوك ناضج مخلص يعبر تعبيرًا صادقًا عن قول القرآن المجيد: «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (البقرة 269).

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com