مرتضى المراغى
شاهدًا على حكم فاروق (42)
أزمة مع على ماهر
يتحدث المراغى فى هذا الفصل عن سر أزمة نشبت بين الملك فاروق وعلى ماهر بعد يومين من توليه الوزارة.
فى أعقاب حريق القاهرة 26 يناير 1952، سارع الملك فاروق بإقالة مصطفى النحاس باشا ووزارته، واختار لخلافته خصمه اللدود على ماهر باشا الذى كان يناهز السبعين عندما تولى الوزارة فى 28 يناير 1952، ولكنه كان يسير كشاب فى الثلاثين.
يروى المراغى أن على ماهر «كان قصير القامة ممتلىء الجسم ذا عينين ضيقتين تجولان فى محجريهما بسرعة، له شارب كثيف يغطى شفة يلويها وهو يبتسم، وكان شعره فاحم السواد لا تجد منه شعرة واحدة بيضاء، لأنه كان يصبغه صبغة محكمة، والرجل له ماض حافل فى تاريخ مصر السياسى. فقد كان عميدًا لكلية الحقوق، ثم وزيرًا فى وزارة إسماعيل صدقى التى عطلت دستور سنة 1923، ثم رئيسًا للديوان الملكى للملك فاروق على أثر توليه العرش فى الثامنة عشرة من عمره، وهو الذى أشار على الملك فاروق بإقالة النحاس باشا زعيم الأغلبية من الحكم بخطاب وقح.
ولم يتعرض رئيس للوزراء من قبل لمثل ما تعرض له فى هذا الخطاب من مهانة وإذلال. إذ كان طعنًا صريحًا فى طريقة الحكم وقد حل البرلمان طبقًا لمشورة رئيس ديوانه. وكانت أول ضربة يوجهها الملك فاروق الى الدستور والحياة النيابية.
ولا شك أن المسؤول الأول عنهما هو على ماهر. إذ أن الملك فى سن الثامنة عشرة لا يعقل أن يصل فهمه للأوضاع السياسية إلى أن يتهم رئيس الوزارة ورئيس حزب الأغلبية بسوء الحكم، وأن يقدم على إقالته وهو متمتع بثقة البرلمان الكاملة، إلا إذا كان مستشاره الأول هو الذى غرس فى عقله هذه الفكرة. ولقد أصبح الملك بعد ذلك يقيل الوزارات ويستهتر بالوزراء كأنهم دمى يلعب بهم. وساعده على ذلك أنه لم يجد من الشعب معارضة قوية.. إلا بعض احتجاجات خافتة ومقالات فى الصحف.
وكان على ماهر رئيسًا للوزراء سنة 1942 واتهمه الإنجليز بأنه موال هو والقصر للمحور. ووجدوا فيه خطرًا على موقفهم العسكرى وطلبوا من الملك إقالته. ورفض الملك وانتهى الأمر بحصار الدبابات الانجليزية لقصر الملك وطلبهم منه التنحى عن العرش. ولو رفض الملك الاستجابة لطلبهم إقالة على ماهر وتعيين مصطفى النحاس رئيسًا للوزارة لذهب منفيًا إلى جنوب إفريقيا. لقد مضت عشر سنوات على أزمة فبراير 42، فلماذا جاء الملك بعلى ماهر رئيسًا للوزارة سنة 1952 ؟
كان فاروق بعد حريق القاهرة فى حاجة سريعة لوزارة تقوم بالحكم إثر إقالة وزارة النحاس باشا. ولم يكن على ماهر هو أول من عرض عليه فاروق رئاسة الوزارة، فقد عرضها على نجيب الهلالى ولكنه اعتذر وأشار على الملك باختيار على ماهر. ويضيف المراغى أنه عرف ذلك من الهلالى باشا نفسه وعندما سأله عن سر ترشيحه لعلى ماهر كانت إجابته : على ماهر له عشر سنوات ينتظر الوزارة على نار ولو قبلت رئاسة الوزارة فإنه سينضم إلى الوفديين فى محاربتى وسيعمل أيضًا مع الإخوان المسلمين ( وكان على ماهر وثيق الصلة بهم.) ضدى أيضًا.
وعندما طلب فاروق إلى على ماهر تشكيل الوزارة لم يضع مرتضى المراغى فى التشكيل وإنما وضع اسم حسن رفعت وكيل الداخلية فى ذلك الوقت وزيرًا للداخلية، ولكن «فاروق» رفض.
وعاد على ماهر واقترح اسم عبد السلام الشاذلى ولكن «فاروق» رفض الاسم مرة ثانية وطلب إلى على ماهر تعيين المراغى ـ وكان فى ذلك الوقت محافظًا للإسكندرية ـ وزيرًا للداخلية.
ولم تكن علاقة مرتضى المراغى بعلى ماهر جيدة، فرفض عرض فاروق فما كان من فاروق إلاَّ أن أرسل إليه يبلغه إعفاءه من تشكيل الوزارة والبحث فى تكليف شخص آخر مثل الهلالى.
ولم يكن سهلاً على علىّ ماهر أن يترك فرصة تشكيل الوزارة تضيع منه وقد صار له عشر سنوات وهو يتلهف عليها بسبب وزير، وإن كان المراغى لم يعرف بكل هذه التفاصيل إلاَّ بعد دخوله الوزارة.
فاروق يبلغ المراغى تعيينه وزيرًا
وقد روى المراغى هذه القصة تفصيلاً، فأبدى أنه فى الساعة الثالثة من صباح الاثنين 28 يناير 52 اتصل به فاروق من القاهرة فى الإسكندرية يسأله : «أنت إيه اللى مخليك فى إسكندرية ؟».
قال له متعجبًا من السؤال : هوه جلالتك عينت حد تانى محافظًا للإسكندرية.
قال الملك ضاحكًا : مش كده.. أنت أصلك بقيت وزير الداخلية.. هو على ماهر لم يتصل بك ؟
قال المراغى : والله مش عارف يا مولانا مين المفروض يتصل بى فى الحالة دى.. جلالتك ولا على ماهر.. أصل أنا لم أدخل الوزارة من قبل.
قال : زى بعضه انزل مصر بقى علشان تحلف اليمين، وكلم على ماهر.
قال المراغى لفاروق : بعد إذن مولانا ما أقدرش أكلمه فى حاجة زى كده.
قال الملك غاضبًا : طيب.. طيب.. وفى السابعة صباحًا كان هناك تليفون آخر ولكن من على ماهر..
وجاء صوته أول ما رفع المراغى السماعة : إيه يا مرتضى ؟.. أنت لسه عندك مانزلتش ؟
قال المراغى : انزل فين ؟
قال على ماهر مندهشًا : تنزل مصر يا أخى.
قال المراغى وهو يتظاهر بالجهل : ليه ؟
قال والدهشة تبدو أكثر فى صوته : أنت مش عارف أنك وزير ؟
قال وهو يمعن فى التظاهر بالجهل : لا.. معرفش.
قال صارخًا : جرى إيه يا مرتضى ؟ هو الملك ما كلمكش ولا إيه ؟
قال المراغى وهو يحاول تفسير معانى الكلمات : هو المفروض مين اللى يكلمنى.. رئيس الوزراء ولا الملك ؟
قال وقد فهمها : يا سيدى زى بعضه، وعلى العموم لنا كلام لما نتقابل.
وترك المراغى الإسكندرية إلى القاهرة واشترك مع الوزارة فى حلف اليمين وفى أثناء خروجهم طلب من على ماهر أن ينفرد به للحديث ولكنه أمهله يومين أو ثلاثة أيام.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com