مهما تعمق أهل الدنيا، فإنهم لا يأخذون الآخرة إلاّ على الرمز والمجاز، ولذلك فمزج حياة أهل الدنيا بالآخرة غير واضح قط لأهل الدنيا.. لأنه بالنسبة لهم ما عاشوا، دائما مختلط بدنياهم المكونة من التبسيط والتعقيد والواقع والخيال والإحساس والتصور واليوم والغد والأمس والماضى البعيد.. كل أولئك متداخل بعضه فى بعض دون تمييز واضح للآدمى لما يسميه الحياة التى عاشها ويعيشها وسيعيشها بقدر ما نعرفها حتى الآن.. ولا غرابة تفى ذلك إن تأملنا بإمعان ما نحن عليه ومنه دون انقطاع خلال مئات السنين فى صلات البشر بعضهم ببعض.. هذه الصلات التى تتقلب دائما ولا تتقلب مترددة على الدوام بين ما يسميه البشر من قديم بالأمل واليأس والصلة والقطيعة والقرابة والعداوة والصداقة والأخوة والتعاطف والمكر والقسوة والعداوة المريرة مكـبوتة أو مكشوفة.
لم يغير الآدميون من أول الدهر طبائعهم حتى الآن.. إلا أقل القليل منهم أو القريب من النادر.. فهم هم كما كانوا من قديم الزمان ، مازالوا أنانيين حتى اليوم والغد.. ويحتاج تشذيب تلك الأنانية العميقة المنكرة ـ إلى تغيير جو كل الكيان البشرى السائد حتى الآن فى الكرة الأرضية بخروج أغلب البشر خروجا عاديا سائدا غير ممتنع ولا منقطع من حضانة وحصانة الكرة الأرضية.. عندئذ قد يعرف الآدميون قيمتهم الحقيقية بعقولهم لا بغرورهم وأنانيتهم وأطماعهم ومكايدهم وقصر نظرهم وضآلة حساباتهم وجعجعتها القائمة على الافتخار بكل ملكية مع أنها ملكية وقتية دائما وأبداً مآلها إلى زوال.
ومعرفتنا للقيمة الحقيقية لعقولنا تنقذنا بحدودها وتنقذ البشرية من توالى الانكماش والاسترخاء فى البساطة والسذاجة اللتين نتخبط فيهما حتى الآن.. إذ عموم البشر كانوا ومازالوا إلى أمد غير قصير سطحيين جدا.. لا يفارقون شهواتهم وأهواءهم ومصالح كل منهم.. ولا يفارقون مطامعهم وأمانيهم ثم أحقادهم ومخاوفهم ومصائبهم ونكباتهم حينما يشعرون بوطأتها ومراراتها ودمارها الذى لم يحسبوا حسابه فى حينه.. هذا الحساب الذى لا توقظ بداياته فى حينها بوادره لدى الغنى أو الفقير !
وقد نطمع فى تغيير أساليبنا الحالية التى عرفناها وطورناها جزافيا وابتداعيا وادعائيا مرات ومرات لا أول لها ولا آخر.. وقد نفلح فيما نطمح إليه إن التفت منا عدد كبير إلى الصدق والعمق وفضلوا هاتين الصفتين قبل كل شىء.. فالصدق والعمق لدى من اعتنقهما بإخلاص ـ هما جوهر كل ما يستطيع إنسان حى واع تحقيقه فى زمانه ومكانه قبل أن يزول من الدنيا.. هذا الزوال الذى لا مفر منه ليحل محله أمثال آدمية يغايرونه فى نواح وقد يتفقون معه فى أخرى.. لكن أغلبية البشر لم ولا تجتهد فى استيعاب هذا الوعى العاقل قط.. بل تتخبط فى سطحياتها وانفعالاتها وأحلامها وأوهامها ومخاوفها بغير حساب مسلمٍ به فى أى عصر.. لأن الآدميين عموما حتى الآن لا يطيقون الاعتدال والانضباط.. عالمهم وجاهلهم.. غنيهم وفقيرهم.. فالتقدم الذى لدينا نحن الآدميين إلى اليوم تقدم جزئى فقط.. وسيبقى دائماً كذلك إلى أن يتسع العالم فى عقولنا ويختلط فى يومنا وغدنا بالكون ـ لا بالأرض فقط كما هى الآن.. فنحن البشر منذ خلقنا وحتى الآن نوجد ونموت فيهـا قديمـا وحديثا.. لا نعرف غيرهـا ، ولا نلتفت إلى سواهـا ، ولا يغتنى أو يفتقر آدمى إلا منها..
فخطى الآدميين الآن التى مرجعها بعض المعارف الثمينة المستفادة من انتظام طلائع الرحلات البشرية فى الكون عن شمسنا وعن كواكبها التى زاد عددها فى نظرنا الآن.. هذه الخطى خطى جيدة لكنها جزئية لم تمتد بعد ولم تتغير بها بشرية الناس اللصيقة بالأرض من آلاف السنين.. فالآدميون جميعا حتى اليوم لم ولن يغادروا ماضيهم الأرضى الطويل الصرف.. هذه الأرض التى نعيش فيها متزاحمين.. فلا مفر فيما يبدو من زمن نقضيه فى التصاقنا الشديد بالأرض.. هذا الالتصاق يبدو كأساس رئيسى لا مهرب منه ولا مناص من تحمله مع استمرار فهمنا الحرى له.. إلى أن نتنبه فجأة بعد زمن يقصر أو يطول إلى أن غالبية البشر قد أفاقت تماما من سيطرة هذه الأرض واستسلمت لإنسانية الإنسان التى لم تعد ترجع قط إلى أنانية الأنانى وسطوة الغاصب وفجور الفاجر وألاعيب الماكر الذى لا يبالى إلا بنفسه ومن هم فى حكم نفسه.. برغـم كثرة الأخطـار وحدود الأعمار وعداوات الأغيار وغير الأغرار التى توقدها الغيرة والمنافسة !
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com