من تراب الطريق (758)

من تراب الطريق (758)
رجائى عطية

رجائى عطية

6:52 ص, الخميس, 19 ديسمبر 19

فهم الآدمى لأية مسألة صغيرة أو كبيرة، لا يكون إلاَّ نسبيًا.. يبدو فى وقت ما كافيا، لكنه فى وقت آخر ينتابه الشك.. ويأخذ ذلك فى الازدياد ويصبح فهمه فهمًا غير شافٍ يدفع العقل دفعًا إلى تصحيحه أو إلى إطراحه. ووعى الآدمى يحصن نفسه ضد هذه النسبية بإبدال الرغبة فى الفهم بالميل إلى الاعتقاد، لأن المعتقد يعيش مع العاطفة التى تحميه من التغير.. وكلما مر عليه الزمن فى صيانة العواطف زاد حظه من الثبات وقل تعرضه للرغبة فى الفحص والمراجعة من جانب العقل بعيدًا عن الاسترابة.

ويبدو أن معتقدات الآدمى أكثر بكثير من مفاهيمه، وأن تصوراته التى يتعجل تصورها بغير تدقيق أو عناية تظل معلقة فى منطقة وسط بين الفهم وبين المعتقد.. هذه المنطقة تغطى عند أغلب الناس معظم المساحة التى يتحرك فيها الوعى واللا وعى.. وهذه مساحة مباحة متاحة للمحاكاة والاعتياد والتيسير والاكتفاء بأقـل مجهود.

فالفهم تعلق بالعقل يبتعد عن العواطف وبالتالى عن المعتقدات ويبتعد عن الاستسلام للتصورات العامية المألوفة بالابتعاد عن الاعتياد والمحاكاة والنفور من المجهود.. ذلك أن الفهم جهد عقلى يبذله الآدمى من أجل الوصول إلى مزيد من وضوح الرؤية والبصيرة يقتضى ضبط العواطف من التدخل فى تحصيل الرؤية وتكوين البصيرة.. وهذا يسمى بالجهد والرؤية وما يوصف بالاتزان إذا أصبح اعتيادًا.

وممارستنا للفهم ليست شائعة كما نظن ونتخيل.. لأننا غالبًا نتفادى بذل المجهود ونعمل على الاقتصاد فيه ونحول باستمرار ما يصدر عنا من أفعال وردود أفعال إيجابًا وسلبًا إلى عادات فردية أو عامةً متفقة مع المزاج الشخصى أو مع البيئة والمحيط. وهذا حاصل حتى فى الأعمال التخصصية أو الفنية أو العلمية التى نقوم بها اختيارًا أو تكليفًا.. والعادات تقلل المجهود المبذول وتختصر الزمن اللازم للفعل أو رد الفعل وتعطى لسلوكنا اليسر والآلية التى تبعد عنا الإحساس بالمشقة البدنية أو العقلية أو النفسية. ونحن حتى فى الجديد الذى يقابلنا من المواقف أو المسائل نجتهد دون أن نتنبه فى تقريبه إلى ما عرفناه ومارسناه للاستنجاد بآليته فى تخفيف المجهود الذى قد يلزمنا بذله لمواجهة ذلك الجديد.

وكل منا قد أحس فى حينه بالمجهود اللازم للفهم فى المرحلة أو المراحل التى مر بها فى التعليم، أو فى المرحلة أو المراحل التى قضاها فى الإلمام بأصول وقواعد وضوابط المهنة أو الحرفة.. وأحس مع ذلك أنه فى إطار هذا اللزوم كانت الفرص تتاح دائما لتثبيت الفهم بالتكرار والاعتياد والمران لاكتساب الحفظ والآلية.. وهما لازمان لتخليص العقل من مجهود الفهم أو تخفيف هذا المجهود نتيجة المواظبة والمثابرة على بذله من أجل المزيد من الفهم والوضوح فى الرؤية والبصيرة.

وتعلق الفهم بالعقل طبيعى ومشروع.. لأن العقل يصحح عمل الحواس وأخطاءها وأوهامها.. ولأن الحواس وهى مشتركة لدى عامة البشر تصحح شطحات العقل وتقاوم سهولة انقياده للخيالات والتصورات، وهذا التصحيح المتبادل لا غنى عنه لوضوح الرؤية المطابقة للواقع بالقدر الممكن لمعرفته حسب إمكان البشر وظروفهم.

وكل من العقل والحواس يتوقف على أجهزة المخ وتعاونها فى العمل معاً وتوافر الطاقة اللازمة لذلك.. ويبدو لنا إلى اليوم أن مصدر هذه الطاقة هو عمل القلب وتزويده للمخ بالدم فى حركة لا تنقطع لتوفير كفايته منه.. وهى حركة لا نعرف مصدرها بيقين.. ونحن نشهدها فى الجنين كما نشهدها فى الحى سواء المكتمل التام الخلقة أو مختلهـا وناقصها، وتصورنا لاحتمال أن يتصل المخ بمصدر آخر للطاقة خلاف القلب بعيد حتى الآن، وإن كانت بعض المشاهدات قد تشير إلى احتمال حصوله كما يحكيه بعض المرضى الذين تعود قلوبهم إلى الحركة بعد فترة توقف وجيزة يروون أنهم رأوا أنفسهم فيها منفصلين عن أجسادهم وما يجرى بشأنها ثم عودتهم إليها.. وما يعقب تلك الحالات من تغير أصحابها تغيرًا أساسيًا فى نظرتهم إلى الحياة ومعناها وقيمتها.. وهذا كله ضمن الغيب الكثيف الذى يحيط بالحياة ويعيق فهم الآدمـى لأصولها ومصادرها.. وهى إعاقة لا يشعر بها ولا بخطورتها لأنها لا تمنع ولا تهدد ذات الحياة ولا تتابعها ولا استمرارها وإن كانت بعض العقول تلحظها وتسجلها.

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com