لم يكف البشر قط عن أن يقولوا ويعيدوا القول، على أنفسهم وعلى غيرهم، ممن هم من جنسهم ـ أنه ليس للآدمى لغات إلاَّ لغات البشر، ولا معان ومفاهيم إلا معانيـها ومفاهيمها..
وهم يقولون إن الكون العظيم الذى هم فيه، توجد عناصره وأجزاؤه وأفراده وتفنى، وأن له ولهذا كله خلقا أزليا أبديا.. خلق الكون كله وخلقنا فيه كما خلق كل من سبقونا من الآدميين، من لحظة الحمل فالميلاد إلى لحظة الوفاة.. لأن الله سبحانه هو واهب الحياة وحافظها فى حدود الأجل الذى يبقيها خلاله.
وهذه الألفاظ حسب لغتها وتراكيبها ومعانيها ومقاصدها وعرفها وطريقة الاعتماد عليها.. هذه الألفاظ كلها بشرية صرف.. لا ندرى ولم يدر من سبقونا ما يقابلها لدى خالقنا عز وجل أو نتيجتها لديه، وإن كنا نؤمن ديانةً بأن لها أثرا حتميا.. إيجابا وسلبا..
والأديان على حق فى الإيمان بأن علاقتنا بالخالق ـ جل شأنه ـ لا تنفصل بإيجادنا.. فمن المحال أن تقع حياتنا الدنيا تماما تحت سيطرة إرادتنا واختيارنا.. وهو ما لا ينازع فيه أصحاب علوم الطب والحياة وعلوم الأحياء والطبيعة الحية.. فتسعة أعشار أجهزة الحياة فينا غير خاضعة للوعى والمشيئة. والعقل والوعى والإرادة تساعدنا على الحياة، لكنها بذاتها لا تكفل الاستمرار إلاَّ بأجهزتنا غير الإرادية المركبة فى كـل منا، والتى زودنا بها الخالق عز وجل، وضمن بتدبيره لها، وحسب هذا التدبير، وبأدائها وصلاحيتها َضمِنَ توفير السبل والأسباب لبناء الحياة ونموها، ضمن العمر المتاح لها فى حياتنا الدنيا!
اتصال الأحياء المخلوقين بالخالق عز وجل، اتصال ممدود ومستمر.. يتم بطريقين.. طريق الأجهزة اللا إرادية وتوابعها فينا.. من هواء ودماء وصفائح وإفرازات لغدد وأمعاء.. وطريق النشاط الحيوى العام الذى به يكون الحى حياًّ وبدونه يصير ميتا يفسد ويتعفن ثم يصير رميما ثم تراباً مع مرور الأيام!
أما الاتصال غير المباشر فمن جانبنا نحن فقط. هو الاتصال بالوعى والفهم البشريين.. والاتصال بالوعى أسبق ـ فى الزمن ـ من الاتصال بالفهم.. وأقل منه وضوحًا وأكثر اختلاطًا بالرهبة والخوف والأوهام وسطوة الأساطير والمعتقدات والشعائر والطقوس. لأنه وعى يداخله ويمتزج به اهتمام عملى بتوفير الضرورات المادية للحياة من أمن وطعام وشراب ومأوى.. هذه الضرورات التى لا غنى عنها لأى آدمى ليعيش.
أما اتصال فهم الآدمى بخالقه عز وجل، فقد جاء متأخرا بعد دهور وأحقاب، وبعد أن اطمأن خلال الأجيال والعصور على توافر تلك الضرورات، واعتاد توافرها، وبفهم أشد وضوحاً وأكثر عمقا بل وشفافية، بلا نفعيات فى حسابه واستدلاله، فيتجلى له استحالة أن يخلق العدم من خوائه التام، وجودًا لم يكن من قبل موجوداً.. يبدأ فينا بذرة ثم يصير جنينا، ويولد صغيرًا جاهلاً جهلاً مطبقًا ثم يخطو إلى الوعى ليخطو به الوعى إلى الفهم. ولكن كيف ؟!
ما عندنا نحن الآدميين من المعرفة هو حصاد الارتقاء من مرحلة الوعى الساذجة إلى مرحلة أو مراحل الفهم.. وهذه لا آخر لها ولا نهاية.. لأن حياة الآدمى تخالطها تطورات فهمه لحياته ومحيطه والكون، وهى فى طريقها إلى الامتزاج والملازمة لهذا التطور الذى لايمكن أن ينتهى.
وهو فهم مهما تعاظم وتعمق ــ لا يُعقل أن يستوعب وعى ما نسميه بالمطلق والأزلى والأبدى وغير المحدود فى أى اتجاه، لأنه خلف كل اتجاه وداخل أى اتجاه دون أن يتجدد!
ولا جدوى فى هذا الصدد للإحالة على كلمات من مثل : خلق وصنع وأنشأ وابتدع، ولا إلى نتائجها من آلات وأدوات ومعدات ووسائل وطرق ومنتجات.. من محاصيل وزراعات وأزهار وأشجار، أو من أفكار وآراء وأحكام ومذاهب وعقائد فاقدة الوعى بهذا الوجود، وعديمة الفهم.. لأنها لا وعى لها ولا إحساس بالذات! ومصدقات ومعارف وعلوم وفنـون وآداب!.. فهذه كلها نواتج بشرية فى ذاتها، جمادات أو فى حكم الجمادات.
فنحن مهما تطاولنا، مخلوقات أنعم عليها الخالق ـ جل شأنه ـ بالوعى والفهم الدائمى النمو والتطور بلا نهاية، ما دام النوع الإنسانى مصراً على احترام وعيه وفهمه والانتفاع بهما. نحن مخلوقات وسط قد يكون لنا أمثال فى هذه الوسطية فى الكون العظيم، يمكننا بهذا أن نعى ونفهم على مقدار قابل للزيادة الهائلة وللنقص والتقلص الهائلين، يمكننا أن نعى ونفهم وجود الخالق عز وجل ووجود الكون العظيم الذى خلقه سبحانه وتعالى ونحن ضمنه.
ولكننا يستحيل علينا أن نعى أو نفهم الخالق جل شأنه.. حتى كما نعى ونفهم أنفسنا أو غيرنا من الآدميين أو من الأحياء.. أو حتى كما نعى ونفهم الكون العظيم وما فيه. وهذه الاستحالة بديهية لدى المتأمل، لكنها تبدو غريبة لدى الإنسان العادى.. برغم أنها لازمة من لوازم الخلق طبقا للناضج من عقول الآدميين. إذ لا يعقل خلافها ويستحيل أن يكون الآدميون المخلوقون خالقين أبديين إلى جوار خالقهم تبارك وتعالى.
وإشارات القرآن المجيد إلى آدم تشير فى عمقها إلى هذا المقصود.. وقوله سبحانه وتعالى : « وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة » ـ إشارة إلى « آدم » التام الذى زوده المولى عز وجل بالوعى والمعرفة والفهم، والذى زود من روح خالقه ـ سبحانه ـ
ما استحق به أن تسجد له الملائكة، وما استحق به أن يعيش هو وزوجه فى رضا ورغدٍ تامين.
لكن آدم منح مع تمام المعرفة والفهم، منح حرية المشيئة والاختيار لما يستطيب، فهيأت له نفسه أو خيلت إليه فى لحظةٍ نسى فيها خالقه أن يطلب لنفسه أن يكون خالداً ذا ملك لا يبلى، فسقط بذلك الطلب وزن كل ما كان لديه من تمام الوعى والمعرفة والفهم، فَأُخْرِجَ من حيث كان، لتضيق عليه الأرض بما رحبت، وليمضى حياته فى هداية نفسه وأهله ومن حوله فى محيطه ونسله حتى لا يقع منهم مثل ما وقع فيه حين أعطى ظهره للوعى والفهم فخسر ما كان فيه من الإكرام والإنعام!
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com