الصبر والإيمان
تأملت كثيرًا ـ ولا أزال ـ فى مطلع أغنية الصبر والإيمان، كلمات حسين السيد، التى غناها محمد عبد الوهاب ـ فى خمسينيات القرن الماضى، ومنع بثها بالإذاعة بعد شهور من ظهورها حتى أوائل سبعينيات القرن الماضى.
لم يكن ذلك هو سبب تأملاتى فيها اليوم، وإنما استوقفنى« عالم الحرمان » الذى يعيش فيه كل مظلوم أو معدوم أو مأزوم أو ممتحن ومتعوس، بحيث لا يبقى أمامه متنفس إلاَّ الإيمان والصبر.. لا شىء على الإطلاق يمكن أن يخفف وجيعته ويسرِّى عنه ويسانده ليمضى ولا ينهار ـ سوى الإيمان والصبر. وأنعم بهما من جنة فعلاً يلوذ بها كل مظلوم أو مقهور أو مصدوم أو محروم أو ممتَحَن أو متعوس.. فلا بقية أمامه ليعيش سوى الإيمان بالله، والصبر على ما أصابه ويصيبه من مكروه.
لا يعنينى باقى كلمات الأغنية التى من أجلها مُنِعت ـ سياسيًّا ـ قرابة العشرين عامًا حتى أُفرج عنها. وإنما يشدنى فقط شطرها الأول.. دعنى أقول إنه قد صار دنياى التى فيها أعيش الآن، فلا ملاذ ـ ناهيك بالجنة أو السعادة ـ لمن يلاقى ما ألقاه.. ألاقى عناءً وأتحمّل سخافات وإساءات بل وسفالات غاية فى البذاءة، يقال إنها ضريبة يتحملها كل مصلح، فيعاديه الفسدة والمتجمدون، ويتطاول عليه السفهاء والسفلة الذين لم يتلقوا تربية تجعل لانفلاتاتهم سقفًا.. مهما أدار المصلح ظهره، فإن السفالة والبذاءات سوف تصله بنحو أو بآخر، تثير من الأسى والامتعاض ما تثيره، وتحرك الأشجان على ما تتلقاه الشجرة المثمرة من قذائف وأحجار.. يزداد أساها حين يكتفى الأخيار وأصحاب المسئولية، بالفرجة، ويلوذون بالصمت باعتباره واحة الأمان التى تقى من التعرض للمتاعب، حتى قال قائل من الزمن الأول: «إذ اضطرمت الفتنة فى البلاد، ورمت النجاة فكن إمّعة» وسادت هذه القالة حتى تصدّى لها الحديث الشريف: «لا يكن أحدهم إمّعة، يقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، وإنما وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم». ولكن هل يكفى تجنب الإساءة؟ إن محض التجنب بطلق الحبل على الغارب للمسيئين، فليس أرجى لهم من موقف التجنب والسكوت عن التصدى لمفترياتهم ولإساءاتهم.
أعود لباقى معانى هذا الشطر من الشعر الذى أثار تأملاتى، فيما يصيب الإنسان من ابتلاءات لا تنتهى، ولكن منها ما يكون شديد الوقع قوى الوطأة، حين تتعرض الحياة نفسها إلى الضربات القاصمة.. فى النفس أو فى من فى حكم النفس كفلذات الأكباد.. هل أمام الإنسان إلاَّ الإيمان والصبر، وعفوا لترتيب الكلمتين على غير ما جرت الأغنية، فظنى أنه لا يمكن أن يتحقق صبر، إلاَّ فى أحضان الإيمان.. الإيمان هو الملاذ الحقيقى، وما الصبر والجلد واحتمال البلاء، إلاَّ منح ونفحات ـ هذا الإيمان، إن غاب غاب مع غيابه كل صبر وكل جلد واحتمال!
هذا الإيمان، هو الذى طفقتُ أتأمل فيه لدى النبى الأمّى عليه الصلاة والسلام، حين خرج وحده بمفرده، تحت جنح الليل، وحيدًا بلا رفيق، إلاّ إيمانه بالله عز وجل، وبالرسالة التى بعث لتبليغها، ماشيًا على قدميه، قاصدًا الطائف، يعانى مع الوحدة هجير الصحراء وقيظ الشمس اللافح، حتى يضطر للمسير ليلاً والبحث نهارًا عن أى ظل يستطيع أن يغفو تحته قليلاً.. يا لهذا النبى الصابر المحتسب، ما يكاد يصل إلى الطائف بعد المشقة البالغة التى احتملها فى الطريق، لا لشىء ولا مغنم ولا مقصد، إلاَّ أن يبَلّغ كلمة ربه، ويهدى الناس والضالين منهم إلى سبل الهداية فى رحاب واحدٍ أحدٍ هو ربُّ العالمين.
يا لهذا الإيمان، الذى أفرز كل هذا الصبر والجلد. ما يكاد عليه الصلاة والسلام يشرف على الطائف، حتى استقبله السفهاء والغلمان، بالقذائف والأحجار، لا يرفع رجلاً إلاَّ رضخوها بالأحجار، كلما أذلقته الحجارة، قعد على الأرض، فيأخذون بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى يرجمونه وهم يتضاحكون ساخرين مستهزئين، لا يستطيع ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يستخلص نفسه منهم إلاَّ بمشقة بالغة، فيخلص إلى حائط بستان وظل نخلة وهو موجع مخضب القدمين، يبكى ويناجى ربه.
يا لهذا الإيمان، الذى به صبر على رحيل كل ذريته ـ عدا الزهراء ـ فى حياته.. بناته الثلاث تباعًا، وطفله إبراهيم الذى أمل فيه عوضًا، فاختطفه الموت فى لحظات.. ألم يوصينا القرآن الكريم بأن يكون لنا فى رسولنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ الأسوة الحسنة.. لا أتداول هذه المعانى فى صفحة وجدانى وأنا أستعرض فصول ما ألاقيه، إلاَّ وأتذكر دعاءه عليه الصلاة والسلام فى الطائف، حين استند إلى سور جدار يبكى، ويناجى ربه..
«اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربى، إلى من تكلنى، إلى بعيد يتجهمنى، أو قريب ملكته أمرى، إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى، بيد أن عافيتك هى أوسع لى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بى غضبك أو تحل علىّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك!».
استعدت وأستعيد دومًا هذه الكلمات، وأذكر معها أن نبى البر والرحمة لم ينه دعاءه بها، وإنما قال لربه عز وجل: «بيد أن عافيتك هى أوسع لى»..
آن لى أن أضع القلم ، وأن ألوذ بجنتى: الإيمان والصبر، متذكرًا ما ختم به الرسول عليه الصلاة والسلام..
إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى، بيد أن عافيتك هى أوسع لى.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com