الإمام الطيب والقول الطيب
(65)
الأزهر والمَحاضِرالشنقيطيّة
يبدو هذا العنوان غير مألوف فى العالم العربى، والسبب أنه مُسَمّى فى موريتانيا الإسلامية، لما يُعرف فيها بالمدرسة الشنقيطيَّة. وكان طبيعيًّا أن يختار الإمام الأكبر هذا الموضوع فى محاضرته التى أُلقيت فى قصر المؤتمرات بالعاصمة الموريتانية « نواكشوط» فى 10 رجب 1439هـ / 19 مارس 2018 م.
مدخله إلى العلاقة بين الأزهر والمدرسة الشنقيطيَّة، قضايا الغلو والعنف والإرهاب المسلح التى باتت تهدد العالم الإسلامى نفسه قبل غيره، ومحاولة البعض إلقاء المسئولية عنها على الإسلام.
وأفضل ما يمكن أن نقدمه لأمتنا فيما قال هو تعميق الصلات العلمية والأكاديمية بين علماء الأزهر وعلماء الغرب الإسلامى، وهو ما تصلح للقيـام بأعبائه : المدرسة الشنقيطيّة، بما لها من مكانة ومن خصائص علمية وتعليمية تميّزت بها.
أما مرجع هذا التميّز، فلأسباب كثيرة من أهمها محافظة العلماء على تراث الأمة الإسلامية حفظًا وروايةً، وشرحًا وتعليقًا، وهو ما يتسق مع رسالة الأزهر والمنهج الذى أخذ نفسه به منذ أكثر من ألف عام، وأبرز سمات هذا « المنهج» هو الجمع بين علوم العقل والنقل والذوق. وهذا المنهج التوفيقى الذى تصالح مع المعقول والمنقول، يعكس طبيعة هذا التراث المتعدد الأبعاد منذ نشأته وعبر تطوره على أيدى كبار العلماء وعظماء المجتهدين، وقد تشرب المسلمون من ينابيع هؤلاء الأعلام كالعسل المصفى، ويحسب للأزهر الشريف أنه كان دومًا الحاضن والحافظ لهذا التراث بكل أبعاده، فضلاً عن اضطلاعه بإعادة الحياة إلى هذا التراث، أو كما يقول أستاذنا الكبير والوصف للإمام الطيب الدكتور زكى نجيب محمود، حيث قال رحمه الله : « جاءت الحضارة الإسلامية، وكلُّ مسلم يعرف ما هى مصر بالنسبة للحضارة الإسلامية، هى التى حفظت التراث الإسلامى كلّه، ولولا ما عمله الأزهر فى القرون: الثانى عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، هذه القرون الأربعة الميلادية، لما كان هنالك ما يُسمّى الآن بالتراث العربى الإسلامى، وكنّا أين نجده والتتار أحرقوه من هنا أى من الشرق وفى الأندلس ضاع من هناك على أيدى الغزاة، لكن انكبّ الأزهر على التجميع، قبل أن يضيع فى الهواء، فجُمِّعَ، ولكن أىُّ تجميعٍ؟ تجميعٌ فيه الإيجابية، وفيه الإبداع، وفيه الهدف.
وإذًا فحين حانت فرصة التفرُّد بريادة التراث من جديد، لم ينهج الأزهر منهج الانتقاء والإقصاء والفرز بين علوم يستبقيها ويسعى فى نشرها، وأخرى يُعتَّمُ عليها ويعرِّضها للعوامل البِلَى والهلاك» وهذه الأبعاد الثلاثة التى ألمح إليها الإمام الأكبر، والتى هى النص والعقل والذوق، قد تعانقت وتمازجت فى منهاج التعليم فى الأزهر حيث تلاشت بينها الحواجز المصطنعة، ووقر فى أذهان طلاب الأزهر وعلمائه أن الاختلافات العقدية والفقهية والذوقية هى اختلافات مشروعة، تتصالح فى رحابها خصائص الإسلام كدين للعالمين يمتد فى المكان وفى الزمان.
ولم تُمتَحن الأمة الإسلامية قديمًا وحديثً بالغلو والتطرف وما صحبهما من فرقة وتمزّق، إلاَّ حينما فرطت فى هذا المنهج المتكامل، وغابت عنها الطبيعة الإمتزاجية فى هذا التراث، والتى سرِّ بقائه وخلوده وصموده سندًا لوحدة الأمة الإسلامية، وظهيرًا لتماسكها.
www. ragai2009.com