الإمام الطيب والقول الطيب
(32)
إتجاهات التجديد فى التراث
عنوان هذا الشق مختار بعناية، سوف يعرفها القارئ، ويعرف وسطية المقصود فيه، حين يمضى مع رحلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب مع هذه القضية البالغة الأهمية، وفضيلته لا يحب أن يأخذ القارئ معصوب العينين إلى تلقى ما يريد إبداء رأيه فيه، فيعلمه من البداية أن موضوع «التراث والتجديد» قد صار فى السنوات الأخيرة محور اهتمام الباحثين والعلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات والكتاب، وعلى اختلاف انتماءاتهم الثقافية والمذهبية، وحظى الموضوع لأهميته القصوى للأمة فى تاريخها المعاصر حظى بدراسات عريضة فاضت بها كتب ومؤتمرات وندوات ومحاضرات.
وأحدث ما طُرح فى هذا الموضوع، مقالات عشر للكاتب جورج طرابيشى (لغوى وكاتب ومفكر سورى) تحت عنـوان: «مذبحة التراث فى الثقافة العربية المعاصرة».
وصدرت أيضًا مجلدات ضخمة اتخذت من موضوع التراث مشروعًا للنهضة عالجت فى ضوئه تحديات العصر، أو بالأحرى عالجت التراث فى ضوء هذه التحديات. وأغرق خطابها فى مفردات غامضة فى معناها وفى تركيبها الصرفى، من مثل: السلفوية التلفيقوية العصروية التحييدوية القروسطية (نحتًا من القرون الوسطى).. وغيرها.
وأتى فى مقدمة هذه الأعمال: مشروع الدكتور «الطيب تيزينى»، المزمع إخراجه فى اثنى عشر جزءًا، تشكل فى مجموعها رؤية جديدة للفكر العربى منذ البدايات حتى المرحلة المعاصرة، وقد صدر الجزء الأول من هذا المشروع فى أكثر من ألف صفحة.
وعلى نفس القدر المتضخم، أعمال للدكتور «حسن حنفى» (وهو معروف للمثقفين المصريين)، تحت عنوان «التراث والتجديد».
أعمال «تيزينى» حددت مسارها فى رؤية قوامها «من التراث إلى الثورة».
ومشروع الدكتور «حسن حنفى» مساره: «من العقيدة إلى الثورة»، طرح فيه قضايا علم الكلام فى خمسة أجزاء أربت على (3200) صفحة، وأبحاث أخرى بعنوان «الدين والثورة»، غير مقالات ومحاضرات تضمنتها ندوات كبرى مثل ندوة : «التراث وتحديات العصر فى الوطن العربى : الأصالة والمعاصرة» وندوة «الفلسفة فى الوطن العربى المعاصر»، وغيرها.
وهناك أعمال أخرى فى نظرية التراث، لا تقل أهمية، فى مقدمتها أعمال الأساتذة: زكى نجيب محمود، وعبد الله العروى، وأدونيس، ومحمد عابد الجابرى، وحسين مروَّة، وغيرهم.
وتقتضى الأمانة العلمية فيما أفصح عنه الإمام الأكبر الدكتور الطيب تقتضى أو تحتم القول بأن الحديث عن هذه الأعمال حديثًا علميًّا مؤسَّسًا على قراءة فاحصة متقصية أمر صعب، ناهيك عن تقويمها تقويمًا نهائيًّا يطمئن إليه الباحث المنصف.
أمران، أو عارضان !
ومن أهم ما يرهق القارئ فى هذه النظريات لتجديد التراث، ويطيل بحثه، دون فائدة تذكر أحيانًا أمران :
الأمر الأول: أن النظريات الاشتراكية فى ثوبها «الماركسى» الراديكالى، تعرض نفسها وهى تتحدث عن التراث «بأشد صور التوصيل تعقيدًا»، وتغرق فى التنظير إلى حد نسيان علاقته بالواقع.
الأمر الثانى: أن النظريات المطروحة فى تجديد التراث، وقفت حيال التراث مواقف شتى.. ذهبت من النقيض إلى نقيضه الآخر، وأحيانًا فى كتابات الكاتب الواحد، ودون تنبيه القارئ إلى الطبيعة التحولية أو المرحلية فى بناء النظرية.
وبين هذين العارضين، أو هاتين الصعوبتين، يمضى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب فى تلمس فكرة نقدية تتعلق بمدرسة «التراث والتجديد» من حيث موقفها من التراث، وعلاقة التراث بالواقع، والعلاج المطروح لتجديد التراث.
جذور القضية
يرجعها البعض إلى حرب يونيو 1967 وتوابعها، ويرى آخرون أنها بدأت منذ الحملة الفرنسية وما أدت إليه من مزيد من الاحتكاك بالغرب، وحدوث مواجهة مباشرة بين حضارتين متباينتين أشد التباين، وما يقتضيه الأخذ بأسباب التقدم، ما بين احتذاء النموذج الغربى احتذاءً كاملاً، وبين إحياء التراث الإسلامى كنموذج حضارى للتنمية والتحديث، أو محاولة التوفيق بين النموذجين.
ويبدى الدكتور الطيب، أن جذور «قضية التراث» ترجع فى بدايتها إلى هذا الاحتكاك المباشر بين الشرق وبين الغرب الأوروبى، ففى هذا التوقيت اضطلع بالقضية رواد الفكر الإسلامى قبل عام 1967، بدءًا بجمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده، ومرورًا بمحمد رشيد رضا، وعبد القادر المغربى، وطاهر الجزائرى، ومصطفى عبد الرازق، ومحمود شلتوت، وعباس العقاد، ومحمد عبد الله دراز، ومحمد البهى، وغيرهم.
والذى لا شك فيه أيضًا أن الاهتمام بالقضية بدأ يفرض نفسه بشكل حاد على طائفة لا يستهان بها من المفكرين والأساتذة والباحثين بعد حرب أو نكسة 1967، وقد تراوحت توجهات هؤلاء أو خلفياتهم المذهبية ما بين القومية إلى الليبرالية إلى الماركسية إلى العلمانية إلى الأصولية المادية.
ويمكن تسهيلاً أو اختصارًا، أن تُعزى مدارس التجديد ومشاريعه جغرافيًّا إلى ثلاث مدارس: السورية، والمغربية، والمصرية.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com