الإمام الطيب والقول الطيب
(30)
يتصل بموضوع التجديد ومفهومه بالمجلد الأول للقول الطيب كتاب قيم آخر أصدره الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بعنوان: التراث والتجديد: «منافشة وردود»، وهو كتاب غير كبير الحجم، ولكنه مركَّز عميقٌ أشد العمق، يتناول قضية التراث والتجديد من جوانب متعددة، يجمع بينها صفاء الرؤية، وقوة الحجة، واستقامة المقصد.
وقد اختارت دار المعارف لتصديره عبارة شافية للإمام جاءت بالكتاب تقول: «إن تجديد التراث الإسلامى لا يحسنه إلاَّ عالم ثابت القدمين فى دراسته المنقول والمعقول، فاهم لطبيعة التراث ولطبيعة المناهج وأدوات التحصيل الفكرى المستخدمة فى البحث والتقصى».
طليعة الكتاب
يستعيد الدكتور الطيب بعض ذكرياته فى ستينيات القرن الماضى، إبان أن كان طالبًا بالمعهد الدينى، وعلى وشك الانتهاء من دراسته الثانوية بالأزهر، وعلى أعتاب الجامعة، كيف كانت مطبوعات وسلسلات الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية تغرق الدنيا، وكيف فرضت الوجاهة العلمية والثقافية آنذاك على بعض الطلاب النابهين أن تلهج ألسنتهم بأسماء أساطير الفلسفة اللينينية والماركسية والتروتسكية (تيار شيوعى وضعه ليون تروتسكى وينسب إليه)، وأن يتحدثوا فى الفروق الدقيقة بين هذه المذاهب، وبدا للبعض أن المعاصرة والطموح للتميز والوجاهة تقتضيان اقتناء بعض مؤلفات ماركس وانجلز ولينين وغيرهم، وقراءتها وتسريح النظر فيها، واتخاذها «مادة» للمناقشة والمحاورة، والمباهاة أحيانًا.
وفى تلك الفترة لم تكن الفلسفة الماركسية هى التيار الوحيد الضاغط على الشباب وعقولهم، فقد كانت هناك مدارس أخرى للفلسفة العلمية، كالوضعية المنطقية، والفلسفة الوجودية، وغيرهما من المدارس التى كانت تلفت نظر الطلاب المتعطشين إلى البحث عن الجديد خارج التراث.
وكانت حركة التأليف والنشر، تغرى القراء والمثقفين، لميل الدولة اقتصاديًّا آنذاك للمذهب الاشتراكى، بهذا الاتجاه، وبالإعلاء من قدره، كذلك كانت حركة الثقافة والفكر والفن والأدب تنحو فى توجهها العام إلى تجليات المذهب الاشتراكى الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والفنية.
على أن تأثير المعسكر الاشتراكى بلغ فى ذلك الوقت مبلغ التدخل المباشر فى المؤسسات الدينية وتقييم أدائها ورصد مدى ملاءمتها للتيار الاشتراكى الذى يمثل آنذاك التوجه الاقتصادى والثقافى للدولة، حتى إن وزيرًا للأوقاف وكان أحد كبار أساتذة الأزهر، قد نُحى من منصبه بتوجيه من المعسكر الاشتراكى رغم نشاطه وتميزه العلمى ومناقبه، فضلاً عن جمعه بين الثقافة الأزهرية العميقة والثقافة الأوروبية الحديثة.
ولم يعد خافيًا فيما عُرِفَ لاحقًا أن المذهب الاشتراكى وإن كان مذهبًا اقتصاديًّا بحتًا فى تطبيقاته العملية، إلاَّ أن لجذوره الفلسفية والأيديولوجية فى بلاد المنبع موقفًا مناهضًا للدين، ولم يكن من اليسير متابعته دون أن ينعكس «التهوين» من شان الدين فى نفوس الناس، وكان لذلك تأثيره السلبى غير المباشر على الأزهر والمؤسسات الدينية الأخرى فى مصر، حتى تحدث تقرير بعثه الأزهر إلى إندونيسيا والملايو والفلبين فى يناير/فبراير 1961، برئاسة الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، وبصحبته الدكتور محمد البهى المدير العام آنذاك للثقافة الإسلامية، بما ينبئ بالشكوى من سحب البساط من الأزهر وعلمائه، وإحالة سلطاته ودوره بالتبعية إلى جهات بعيدة كل البعد عن العمل الإسلامى، حتى إن بعثة دُفَِعت للذهاب قبل وفد الأزهر لتوحى لدى الجهات الرسمية فى إندونيسيا أن رسالة الأزهر باتت مقصورةً على العبادة فقط، وأن المؤتمر الإسلامى فى وضعه الجديد قد أخذ الجانب الاجتماعى من رسالة الأزهر، وأنه من ثم هو المنوط به الربط الثقافى الروحى بين مصر وبلاد العالم الإسلامى الأخرى، وأن أى معونات ثقافية فى صورة كتب أو مدرسين أو طلاب يجب أن تُوَجه إلى هذا المؤتمر الإسلامى وحده.
على أن الشيخ الجليل محمود شلتوت، لم يتوان فى إعداد تقرير إلى الرئيس جمال عبد الناصر، عن بيان عدم صواب ما حدث، وعدم اتساقه مع ما يجب أن يُحفظ من مكانة للأزهر ورسالته.
ويعتقد الدكتور الطيب أن إقصاء الأزهر لم يكن سهلاً على نفوس المسئولين، ولكنه كان فى أغلب الظن أشبه باعتبارات المواءمة التى تفرضها ضرورات التحول السياسى والاقتصادى.
وكان من نصيب طلاب الأزهر آنذاك فيما أبدى أن يعيشوا تلك الحقبة التى هبت عليهم فيها الرياح الثقافية العاتية القادمة من شرق أوروبا وغربها، ولم ينقذهم إلاَّ نخبة من عظماء مفكرى مصر الذين صمدوا لهذا الفكر الوافد، وكشفوا عن كثير من عوراته ونقائصه أيضًا، وكان فى مقدمة هؤلاء عملاق الأدب العربى الأستاذ «العقاد»، فمثل لجيلهم طوق النجاة، وأعاد لهم الثقة فى أنفسهم وفى تراثهم وحضارتهم، وكان له فضل السبق والترصد لهذه المذاهب الوافدة وتحطيم أصنامها، وسار على منواله الدكتور محمد البهى بعد أن ترك وزارة الأوقاف، والسيد محمد باقر الصدر بالعراق، وما كتبه آنذاك الأستاذ سيد قطب عن عدالة الإسلام الاجتماعية التى تقف دونها الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية فى الشيوعية والاشتراكية حاسرة الأطراف، ولمن لا يعرفون فإن الأستاذ سيد قطب لم يبدأ توجهه المأخوذ عليه إلاَّ متأخرًا بعد سنوات، فقد بدأ حياته شاعرًا وأديبًا وقصَّاصًا، معتدل الفكر، وكان من تلاميذ ومحبى الأستاذ العقاد، والأستاذ العلامة محمود شاكر، ولا يجوز فى المنهج العلمى إنكار ولا إخفاء دوره السابق فى مقاومة المد الشيوعى، إلاَّ أن هناك من أرادوا أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها لمجرد ذكر اسمه ضمن عدة أسماء فى إطار حقيقة تاريخية لا ينبغى أن يحول اتجاهه السياسى اللاحق دون ذكرها.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com