من تراب الطريق (1160)

من تراب الطريق (1160)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:08 ص, الأربعاء, 18 أغسطس 21

الاختلاف :هل مصباح رؤية أم مدعاة عداوة ؟!

(1)

أغلب الظن إن لم يكن أغلب اليقين، أن الآدمى لا يحب إن لم يكره من يخالفه.. لأن المخالفة تبدو فى نظره قريبة من الخصومة، مع أن هذه المخالفة ضرورية جدًّا لحياة الآدمى كفرد أو كعضو فى مجموع، بل لعلها أشد لزوما من الموافقة التى نرتاح إليها وننشدها ونفضل ما يصحبها ويصاحبها من الشعور بالراحة والأمان مع المتفقين أو الموافقين.

والمخالفة إن لم تكن محض رغبة مريضة فى الاعتراض ـ تنطوى أيًّا كان الرأى فيها، على رؤية أخرى للأمور من بعض أو كل الوجوه، تختلف عما نراه ونحبه. لكنها دائما تفسح وتوسع مجال رؤية الآدمى إذا لم يغلق أمام نفسه كل نوافذ الرؤية.. وهو لا يغلقها إن أغلقها ـ إلاَّ بالتصلب والعناد إزاء ما يراه اعتراضاً على رأيه أو مسلكه أو تفكيره، وقد يظنه من باب العداء أو الحكم على شخصه بما لا يحبه ويرضاه !

ورؤية البشر للأمور، ايا كانت اتجاهاتها، مصدرها الرئيسى الموافقة والنقل والاستنتاج، وهذه المصادر الثلاثة تتم عادة لدى السواد الأعظم بمراعاة قانون أقل مجهود، وبأدنى قدر من العناء الذى يكفل الدقة والحرص على الضبط والإحكام. وفى ذلك كله يتدخل العرف والاعتياد العام إلى حد كبير، كما تُصاغ على أساسها أصول الآداب وقواعد وسنن الأخلاق وقدر كبير من أنماط السلوك وتعاليم الخير ووجوهه، وما يقابل ذلك مما يوصف بالفساد والضلال والشر.

وهذا كله مبناه الظن الذى قد يمسى جزماً وقَطْعاً بفعل العادة ومرور الزمن وتعاقب الأجيال على الاعتقاد والامتثال.. فإذا انقطع الاعتياد وكف الامتثال ـ جرف النسيان ذلك الذى كان لازما جازماً مقطوعاً به، وأمكن أن يحل محله ما كان من قبل مرفوضا متروكا أو محظوراً، واتسعت رؤية الآدميين له ووافقوا عليه واقتنعوا به بل وغضبوا له بعد غضبهم أو غضب آبائهم عليه. وبقيت من ذلك آثار تستطيع أن تراها فى المبانى أو المعابد أو المقابر أو الكتب والأوراق، خاليةً خلوًّا يكاد يكون تاما مما يثير عواطف الأحياء إلى القبول العاطفى أو الرفض العاطفى، لكنه يعرض على من يرونه ويعرفون محتواه أو بعضه من الأحياء ـ يعرض عليهم ما كان يعتقده ويفكر فيه الأقدمون. وهذا يزيد فى مساحة رؤية ومعرفة أولئك الأحياء معرفة تكاد تخلو من الإثارة، وتكاد تكون فى ذلك شبيهة بمعارفهم العلمية الموضوعية البعيدة عن العقائد والعواطف.

إن رؤية الآدمى لما يواقعه أو ينقله أو يستنتجه مما يتعلق بنفسه أو بمحيطه ـ تكاد تكون خالية تماما من الأصالة، أو الإبداع. لكنها تصبح رؤيته هو المنتمية إلى ذاته، والمتصلة بشخصه، متى قطعها من مصدرها الخارجى وربطها بأنانيته واختلطت برصيدها المصون الذى يجب عليه عاطفيا أن يخف لحمايته والدفاع عنه، وأن يُسَرّ ويفرح لانتصاره وإكباره. وهذا يحدث كلما ترك الآدمى نفسه ينساق فكرًا وسلوكًا مع رؤية حقيقية لها أصدقاء انضم إليهم سرا أو سرا وعلانية، وخصوم خاصمهم سرا أو سرا وعلانية، وصارت بذلك جزءاً من حياته هو فى زمن ما من أزمانها ومراحلها.

أما الأصالة والإبداع، ففروق ذهبية توجد أحيانا فى طينة الآدمى المتشابهة فى الرتابة والاعتياد، فتضىء ما حولها وتترك آثارها الهامة أو الضئيلة حسب ظروفها. فى الجماعة.. منها ما يتراكم ويدفع الجماعة فى طريق التطور، وأكثرها ينطفئ ويختفى أثره فـى عتامة المحيط التى تبتلعه.

والأصالة والإبداع رؤية شخصية لصاحبها ابتداءً وانتهاءً.. مصحوبة دائما بحافز أو رديف عاطفى قوى جدا، لكنها لا تكون رؤية لغيره إلاَّ بالامتثال والاعتقاد على ما أسلفنا.

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com