من تراب الطريق (1159)

من تراب الطريق (1159)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:34 ص, الثلاثاء, 17 أغسطس 21

تقادير المصادفات!

(2)

لم يصدق الأب أن ابنته ماتت بيده، فطفق يحتضنها وينكفئ عليها ويبكى، ولم يفصله ويرفعه عن جثمانها المسجى إلاَّ أذرع الشرطة التى قدمت إثر بلاغٍ سريع، لتأخذ الأب إلى قسم الشرطة، وترسل الجثمان إلى المشرحة للبدء فى إجراءات التشريح بأمر النيابة العامة التى رفع إليها الأمر!

كانت مصيبة الرجل وأسرته مصيبتين بل ثلاثا : الفضيحة المرة، ووفاة الابنة، واتهام الأب بقتلها..

اتهمته النيابة العامة بجناية ضرب ابنته ضرباً أفضى إلى موتها.. وقفت أدافع عنه أمام محكمة الجنايات تقديرًا لمحنتة، ولكن ماذا عساى أن أقول : إن الجانى هو المجنى عليه.. هكذا قلت لهيئة المحكمة.. لقد اجتمعت فيه الصفتان.. إن وجيعته فى مصرع فلذة كبده وضناه، أشد وطأة مما يتعرض له من عقاب عن جناية ضربها ضرباً وإن لم يقصد به قتلاً إلاَّ أنه أفضى إلى موتها.. إن السجن مهما طال، مآله إلى نهاية يخرج بعدها من أسر الأسوار إلى أسر نفسه التى سقطت إلى القاع وتبعثرت أشتاتا، لا تفارقها صورة ابنته وهى تتهاوى قتيلة بين يديه، ولا استغاثتها به أن يرحمها، ولا أنينها ودموعها التى لم يرها إلاَّ وهى جثة هامدة يحاول أن يرد إليها الروح دون جدوى.. هذه الصورة صارت ملازمةً له فى صحوه وفى منامه وفى أحلامه وكـوابيسه. إن هذا الجانى، أو المجنى عليه، قد سبق العقاب إليه قبـل العـقاب الذى سوف تنزله به الأب المحكمة.. إن ما يعانيه أشد وقعًا ووجيعةً وألما من أى عقوبة..قلت للمحكمة : فماذا أنتم فاعلون بهذا المسكين الذى أجرم بالصدفة وقتل ابنته بالصدفة، وروع بوفاتها بين يديه فى لحظة مشئومة وكان قبلها بلحظة أبًا سويًا مستورًا.. يتمنى لهذه الابنة المسكينة كل ما يتمناه الأب لفلذة كبده من نجاح وغبطة وسعادة وطول حياة!

أذكر أن المحكمة يومها وتضعضعه، فاستعملت سلطتها فى الرأفة وإيقاف التنفيذ بمقتضى المادتين 17، 55 من قانون العقوبات، ونزلت بالعقوبة درجتين إلى الحبس سنة مع إيقاف التنفيذ!!!

استقبل الأب المكلوم فى ابنته هذا الحكم واجماً ساهماً، لم تبد عليه أى فرحة بهذه الرأفة الشاملة التى استعملتها معه المحكمة بغير حدود، ومشى منصرفا وأسرته من حوله.. يلملم نفسه مطأطئ الرأس وعلى أسارير وجهه ألم الذكرى التى أوقن أنها لن تفارقه ما بقى له من عمر بحساب السنين!

حياة الآدمى مهما بلغ لديه الحدس، أو ملكة التوقع، مليئة باحتمالات، وأزمة المصادفة أيا كانت، أنها تأتى أو تداهم على غير توقع، والتوقع هو الذى يهيئ الاستعداد والتأهب وإجراء الحسابات واتخاذ التدابير، بينما المفاجأة التى تصاحب المصادفات، لا تتيح لمتلقيها شيئا من ذلك فُيؤخذ على غرة.. وليست المصادفات كلها من نوع واحد أو على وتيرة طيبة.. فهناك مصادفات مرة، وهناك منها ما يبلغ حدّ الفواجع، والحوادث بعامة تأتى على غير اتفاق وبغير تنبيه سابق، فيشب الحريق فجأة، أو تنحرف السيارة فجأة أو يداهم التسمم بغتة، أو ينهار العقار الجديد بلا مقدمات!

إن المجاهيل والاحتمالات والمصادفات التى تواجه الآدمى منذ ميلاده حتى وفاته، توجب عليه أن يتخذ من تجاربه شاحنا لعقله وملكاته.. أن يمعن التفكر والتأمل، وأن يثرى ملكة التوقع لديه، ليكون أقدر على مواجهة مخبوءات المقادير وشتى الاحتمالات والمصادفات.. وليكون أكثر فهما للحياة وسننها، وأعمق رؤية لما يجرى فيها، وأصوب وأعقل نظراً وتصرفاً فيما يداهمه من تقادير المصادفات.. فالاحتمالات وأحوالها لن تنتهى من عالم الآدمى، ولن يكون عنده «مفاتح الغيب».. ما يملكه هو أن يعمل عقله وفكره، ونظره وإمعانه، ليكون أقرب إلى الفهم والتوقع وحسن التصرف، وأجدر بالحياة التى وهبها الخالق عز وجل له ولكافة الأحياء.

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com