من تراب الطريق (1132)

من تراب الطريق (1132)
رجائى عطية

رجائى عطية

8:08 ص, الأحد, 4 يوليو 21

ابتكارات البشر

ما نمارسه نحن البشر مما نسميه خلقًا أو ابتكارًا أو إبداعًا، لا يمكن أن يكون خلقًا كما نتصور، فالله تعالى وحده هو الذى يخلق من العدم، وما نبتكره أو نبتدعه ما هو إلاَّ حصاد موجودات سابقة، نظرنا فيها وتاملناها، واستقرت فى الوعى أو فى اللاوعى، وقصارانا أن نستخرج منها معانى أو دلالات أو نكون منها صورة جديدة أو مشهدًا آخر.

وعلى ذلك فإن الإبداع البشرى ما هو إلاَّ الإتيان فيما تعلم الإنسان مباشرته من قبل والتفكير فيه، ولكن بشىء أو بصورة لم يُسبق إليها سابقٌ أو كثرٌ من السابقين. ذلك أن الأبداع يقتضى وجود ما يمكن اكتسابه بالتعلم، أى بالتقليد والمحاكاة الإرادية وغير الإرادية.. فهو خلق مجازى من خلال مراحل التعلم والمحاكاة ؛ وليس خلقًا من لا شىء أو من العدم.. ولا نسميه خلقًا إلاَّ من باب المجاز أو التشبيه أو الكناية. الخلق من العدم لا يصدر عن المخلوقات مهما كانت ومهما تميزت، وإنما يصدر من الخالق وحده تبارك وتعالى.

وكل القمم البشرية من أول الدهر ــــ قلدت وماتت وهى تقلد.. لأنها عاشت حياة البشر التى لم تستغن ولن تستغنى قط عن التقليد.. إذ ليس عنه غنى لوجود الجماعات صغيرها وكبيرها، ولعمار أرض الله.. بل لا بديل عنه لإقامة الحضارات ولكل صور التطور وتقدم العلوم والفنون وانتشار الإنسانية وإعلاء رايتها فى العالم. كل عظيم من القمم البشرية قديمها وحديثها مقلد وكان مقلدًا وسيظل من يجود بهم الزمان مقلـدين ما داموا آدميين.. لا يخرج أحد فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل عن دائرة التقليد لأنه آدمى اعتنق ويعتنق وسيعتنق أفكـارًا وآراء وتصـورات ومعارف.. موجودة قبله أو وجدت مع وجوده.. فى محيطــه أو فى عصره.. ورحّبت بها استعداداته الفطرية واتفقت مع قدراتـه العقلية والبدنية، وأسس عليها أخلاقه ومشاربه وأذواقه، وتدخلت من ثم فى اتجاهاته واهتماماته وأعماله.

وطبيعى أن تكون الأفكارة العامة والمصدقات العامة والأساليب العامة للتفكير واحدة فى المحيط أو فى العصر، ولكن ليس طبيعيًا أن تكون صورها واحدة لدى كل فرد ــ فالأفراد تتعدد وتختلف وتتفاوت قدراتهم وأساليبهم فى التعبير عن الأفكار، سواء بالكلمة أو بالرسم أو بالنحت أو بالموسيقى.. لذلك تتعدد الصور والأنغام والآداب..ومع ذلك يبقى لكل فرد أسلوبه الخاص فى الرسم أو فى التصوير أو فى التعبير أو فى الصياغة أو فى التمثل.. فلكل رسام ونحات وموسيقار وأديب وشاعر طابعه الخاص الذى يشكل به وفيه ما يفرزه أو يبتدعه ــ وهذا الطابع الشخصى المنفرد ؛ هو الذى يحدد خصوصية الأفكار والمصدقات والأساليب التى تختلف فيها فردية الشخص عن سواه.

وغير ذلك يوجد التقليد وتوجد المحاكاة، ولا يختلف صغار الآدميين فى هذا التقليد والمحاكاة عن صغار الثدييات عمومًا، فكل هذه المخلوقات يأتيها تقليد ومحاكاة مستمدة من المحيط.. وقد يصاحبها من الميلاد مستمدًّا من الخبرات الراقدة فى جينات الحيوانات والطيور.. هذا وكل ما ندخله على المحاكاة من تعديل أو تطوير الصورة والشكل، إنما يأتينا بدوره من خلال التقليد.. شأننا فى ذلك شأن صغار الثديات.. تعيش حياتها الأولى بتقليد الكبار تقليدًا لا إراديًّا فى الأغلب الأعمم.. خاصة فى مجال الأنشطة الحيوية كالأكل والشراب والحركة.. ومع نمو الإحساس بالذات المصاحب لنمو القدرات، يبدأ الآدمى فى تقليد الأباعد وفى الزهو بمخالفة الأقربين.. ويبدو هذا واضحًا جليًّا بل أكثر جلاءً فى طور المراهقة، حيث يبدأ الاتصال بمحيط أكبر وأوسع من البيت ومن الوالدين والأخوة، ومع التقدم فى السن، ينفرج أمامه الباب لينفتح تدريجيًّا على مصراعيه للتقليد الإرادى المبنى على الاختيار الشخصى أو على الاختيار الجماعى، هذا ووارد أن يصاحب عملية التقليد تعديلات جزئية تختلف من شخص لآخر، تمليها ميول كل شخص وخصوصية قدراته بأنواعها.

ومع تجارب الشباب وما يليه من مراحل العمر ــــ تعتبر التجارب الشخصية مجالاً أساسيًا من مجالات التقليد الإرادى وغير الإرادى. ولا يوجد آدمى ـــ ولم يوجد قط ـــ استطاع أن يتتبع كل أو معظم خيوط التقليد الكثيفة المتراكبة المعقدة التى منها يتألف تفكيره وخياله وعاداته وأخلاقه وأذواقه.. فما هى إذن فردية الآدمى ومبنى شخصيته ؟

كل تقليد يحمل طابعًا شخصيًا للمقلِّد لا يشترك فيه غيره.. بهذا المزيج الذى يجمع بين «التقليد» والطابع الشخصى يتشكل أو يكون لكل فرد وجود خاص وروح خاصة لها ـ كما يقولون ـ لونها وطعمها.. تنعكس على سلوكه وأخلاقه وعاداته على نحو ينفرد به طول حياته، وتبقى ذكراه فى ذاكرة من يعرفونه.. أو يعرفون من يعرفونه متميزة عن غيره ممن عرفوهم.. ويظل هذا التميز معروفًا لزمن قد يطول قرونًا حسب حاله وحالهم .

ظنى فى الختام، أنه قد جهل من ظن أنه عرف !

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com