الشرق الفنان
(23)
هما إذن نظرتان ينظر الإنسان بأى منهما.. إلى نفسه، وإلى العالم.. أو ينظر بهذه مرة، وبتلك أخرى..
الإنسان حين يقف إزاء الحقيقة الخارجية، إما أن ينظر إليها من خلال ذاته، وحينئذ يشبهها بنفسه فيدمج الطرفين فى كائن واحد، وتلك هى وقفة الفنان وكذلك المتصوف ومن جرى مجراهما.
وإما أن ينظر إليها كمتفرج يتابع ما يجرى أمامه على مسرح الحياة والحوادث، فيصفها كما يراها، وصفًا يصلح لنفسه ويصلح لغيره.. وتلك هى نظرة العالِم ومن يجرى مجراه.
والفرض الثالث أن ينظر إليها نظرةً تجمع النظرتين. إن كان ما ينظر إليه وجدانًا ينبض به قلبه إزاء الكون ؛ نظر إليه نظرة الفنان أو المتصوف، وإن كان ما ينظر إليه من الظواهر الخارجية للأشياء، نظر إليه نظرة العالِم الذى يدرس ويطبق مقاييس العلم.
وبديهى فإن الناس تتباين فيما يأخذ به هذا أو ذاك، فى نظره إلى الكون وإلى مسرح الحوادث، والأشياء.. بيد أن النظرة الفنية أو نظرة الفنان، هى ديدن الشرق الأقصى، والثانية نظرة الغرب، وتتآلف النظرتان فى الشرق الأوسط كما مَرَّ بنا.
والناظر بهذه النظرة أو تلك، لا يتخذ قرارًا مسبقًا بمعنى القرار يلتزمه فيما سوف يفعله، وإنما هو يصدر عما طُبع عليه، وهذا الطبع حصاد عوامل متعددة تتشارك بنسب متفاوته فى تشكيل هذا الانطباع أو ذاك.
هذا ومن المحال على الإنسان مهما كانت نظرته إلى نفسه وإلى العالم الخارجى، أن يقف عند مدركاته المباشرة كما تأتى مجزأة على لحظات الزمن المتتابعة وموزعة على نقاط المكان المتفرقة.. كذلك محال على الإنسان أن يقف عند كل واحدة من تلك الانطباعات التى تحدث لديه كأنما كل منها حقيقة مستقلة قائمة بذاتها ؛ وإنما هو فى الواقع يجاوزها إلى مبدأ عام إن جاز التعبير يطويها تحت جناحه. وهنا يكون الاختلاف الأصيل بين نظرة ونظرة وبين ثقافة وثقافة.
من الناس من ينتهى إلى مبدأ شامل يضم هذه الجزئيات المتفرقة الفرادى.
ولكن من الناس أيضًا من ينتهى إلى مبدأ شامل يدرج تحته هذه الجزئيات الحسيّة المتفرقة، بيد أنه لا يدعى لهذا المبدأ سوى أنه «فرض» يفترضه ويعرضه للتحقيق وإثبات الصدق من واقع ما يشاهده وما يجريه من تجارب، ثم يعود إلى عالم الحسيّات لينظر هل هذه النتائج صادقة على الواقع أو ليست كذلك، ولعله حينئذ يحل مبدأ آخر يفترضه لتفسير وقائع العالم المحسوس كما تقع لبصره وسمعه ؛ ولذلك تجد تاريخ المعرفة عند هذا الفريق الثانى متغيرًا متبدلاً كما يقول الدكتور زكى نجيب محمود. يفرغ من مرحلة ليبدأ سيره فى مرحلة جديدة، لأنه لا يقبل متابعة السير لمبدأ افترضه ثم ثبت له بطلانه أو عدم صحته.. بينما تجد تاريخ المعرفة عند الفريق الأول على قدر كبير من الثبات والاستقرار أو الدوام.
هذان الفريقان يكونان عندما يتجاوزان الجزئيّات المحسة، على اختلاف فى المبدأ العام الشامل الذى يتخذه كل منهما.
أحدهما يرى نفسه إزاء حقيقة أدركها إدراكًا واضحًا ناصعًا لأنه شاهدها بروحه.. ولكنه فى الوقت نفسه لا يستطيع التعبير عنها بكلمات مستقيمة المعنى كهذه الكلمات والعبارات التى نتفاهم بها فى حيواتنا المعيشية، ولذلك تراه يلجأ إلى العبارات والكلمات التى تومئ وتوحى، وليس التى تصف وتحدد؛ ومن هذا القبيل فيما يورد الدكتور زكى نجيب محمود الأسفار الدينية والصوفية فى الثقافة الشرقية، وتلك فيما يرى هى لغة الفن.
أما الفريق الآخر فيرى نفسه إزاء حقيقة يفترضها لنفسه كيما يستنبط منها النتائج، ولذلك فلا مناص عنده من العبارات بل الألفاظ المحددة الدقيقة، ومن هذا القبيل الكتب العلمية فى ثقافة الغرب (بل وفى الإنتاج العلمى للشرق) وتلك هى لغة العلم النظرى.
أضفتُ استدراكى بين القوسين، لأنى وجدت فى ثقافتنا الشرقية فرقًا واضحًا بين لغة الأدب والشعر والقص، وبين لغة الفقه والقانون، فقد توارت فيها زخارف الجناس والطباق والبديع إلى آخر ما يلحق بلغة الأدب من محسنات بديعية.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com