الشرق الفنان
(17)
أميز ما يتميز به الشرق الأقصى، هو أنه الموحد للوجود. توحيدًا اهتدى إليه بلمسة وجدانية مباشرة. لا برهان ولا دليل ولا حجة، إذ ليست هذه هى وسائلة فى الإدراك. فالإدراك الجمالى للأشياء أمر ذاتى مباشر.
اليونان أول من عُرِف بالعقل الفليسوف المنطقى بالمعنى الدقيق، والفارق بين فليسوف اليونان وفليسوف الشرق الأقصى، أنهما وإن اتفقا فى توحيد الوجود، فإن فليسوف اليونان يقدم ما يظن أنه الدليل والبرهان بمقدمات المنطق ونتائجه، أما فليسوف الشرق الأقصى فيهتدى باللمسة الوجدانية المباشرة، لا بالأدلة والحجج والبراهين.
الطرفان أحدهما يصل لما يريد بالتأمل الحدسى، والآخر بالتدليل العقلى.
وقد قيل إن هذين الطرفين لا يلتقيان، ولن يلتقيا قط فى أمة واحدة أو فى شخص واحد.
بيد أنهما قد تلاقيا واجتمعا فى الشرق الأوسط.. ففيه اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالم وصناعة العامل. حتى قال «وايتهد» إن حضارة الغرب ترتد إلى ثلاثة أصول : اليونان وفلسطين ومصر : من اليونان الفلسفة، ومن فلسطين الدين، ومن مصر العلم والصناعة.
ويرى الدكتور زكى نجيب محمود أن هذه العناصر الثلاثة ــ كما يقول إنج ــ قد إجتمعت معًا فى الأسكندرية القديمة، إذ فيها إلتقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية وأصحاب المهارة العملية فى آن واحد معًا ـــ وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الأسكندرية ــ لم يكن ذلك نقلة فى المكان فقط، وإنما كان تغييرًا فى منهج التفكير أيضًا. حتى فرق مؤرخو الفكر بين اسمين قربيين: «الهيلينيه» ويقصد بها فلسفة اليونان الخالصة، و «الهلنستية» وتعنى الفلسفة اليونانية الممتزجة بالأسكندرية.
ثم جاءت الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فأنطبعت بالطابع الشرقى الصوفى على يد «أفلوطين» (205ميلادية). وهو من أبناء أسيوط وتعلم فى الأسكندرية ؛ فنشأ ما عرف بتاريخ الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. وكان لها فيما بعد بالغ الأثر ــ فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود ـــ على فلاسفة المسلمين الذين أطلتوا عليها أحيانًا : «مذهب الإسكندرانيين».
تقول الأفلاطونية الجديدة إن العالم كثير الظواهر دائم التغيير، وهو لم يوجد بنفسه، بل لابد لإيجاده من علة سابقة هى «السبب» فى وجوده ؛ وهذا الذى صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول ؛ وهو أزلى أبدى قائم بنفسه، لا تحده حدود، خلق الخلق ولم يحل فيه خلق، بل ظل قائمًا بنفسه على خلقه ؛ ليس هو ذاتًا ولا صفة ؛ بل هو الإرادة المطلقة، لا يخرج شىء عن إرادته ـــ هو علة العلل ولا علة له، وهو فى كل مكان ولا مكان له ؛ ولما كان الشبه منقطعًا بينه وبين الأشياء لم نستطيع أن نصفه إلاَّ بصفات سلبية، فهو ليس مادة، وهو ليس حركة، وليس سكونًا، وليس هو فى زمان ولا مكان ؛ وليس هو صفة، لأنه سابق لكل الصفات، ولو أضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيهًا له بشىء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدًا له، وهو لا متناه وغير محدود ؛ فلسنا نعلم عن طبيعة هذا «الواحد» شيئًا إلاَّ أنه يخالف كل شىء ويسمو على كل شىء.
ولا شك أن خروج الكثرة من هذه الوحدة يحتاج إلى تفسير، وقد فسر أفلوطين عملية الخلق دون أن ينزل بالله الخالق إلى مستوى خلقه، ودون أن تخرج الكثرة من وحدته. إن تفكير الله فى ذاته وفى كماله قد تشأ عنه فيض، وهذا الفيض هو العالم المخلوق، فكما ينبعث من الشمس ضوؤها، إنبعث الخلق من الخالق إشراقًا وفيضًا.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com