الشرق الفنان
(16)
يأخذنا أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء الدكتور زكى نجيب محمود يأخذنا بعد ما تقدم، إلى مقارنات أو مقابلات سريعة بين الفلسفة الشرقية وبعض فلسفات الغرب.
مثلاً المقارنة بين «بوذا» من ناحية، و«هيوم» من ناحية أخرى.
يستدعى هذه المقارنة أن كليهما يتفقان فى نقطة رئيسية هامة، وهى «تفكك» مجْرَى المعرفة إلى حالات مفردة متتابعة..
يوجد بالفعل شبه قوى بين خطوتين من خطوات التفكير فى كلتا الحالتين.
أعلن بوذا (600 ق م) عن رأيه المعين فى المعرفة، ثم أخرج تلاميذه النتيجة المنطقية التى تترتب على هذا الرأى الذى لم يفصح عنه بوذا نفسه.
ومن ناحية أخرى، ترى «باركلى» الفيلسوف الإنجليزى فى القرن الثامن عشر (1685/ 1753) قد أبدى هو الآخر رأيًا فى المعرفة شبيه برأى «بوذا»، ثم جاء بعده «هيوم» (1711/ 1776) فأخرج من الرأى نتائجه المنطقية وهو ما كان قد فعله تلاميذ «بوذا».
انتهى الأمر فى الحالتين إلى نقطة واحدة وقفت عندها الفلسفة الإنجليزية، بيد أن الفلسفة الشرقية مضت فى السير بعدها، فكان ذلك موضع خلاف بين الفلسفتين الشرقية، والغربية .
لا ينبغى أن ينفد صبرنا من هذه المتابعة العميقة، فهى رياضة عقلية رائعة.
بدأ «بوذا» وأتباعه بقولهم : إن حقيقة الشىء المدرك هى كيفية وقوعه على الذات المدركة. حقيقة أى شىء هى انطباعها على عينى وعينك، ومن ثم فإن «حقائق الأشياء» هى ذاتها «معطياتها الحسية» المباشرة. وما دامت حواسنا لا تدرك إلاَّ شيئًا جزئيًّا ماثلاً أمامها، لذلك فإن كافة إدراكاتنا جزئية كذلك ؛ وما المدرك الكلى العام إلاَّ إحدى الجزئيات التى أدركتها حواسنا فيما مضى، جعلناها ممثلة لبقية أفراد نوعها فالمثلث الواحد مثلاً يمثل كل المثلثات..
هكذا يقول «باركلى»، ثم جاء «هيوم» من بعده ليطبق المنطق نفسه على «الذات المدركة»، وهى فى نظره لا وجود لها. لماذا ؟ لأنه ما دام الإدراك لا يكون إلاَّ لجزئيات حسية معينة، سواء من لمعات الضوء التى تنطبع على حواسنا البصرية، أم من لمعات الصوت التى تنطبع بها الأذن. ولما كانت «الذات» التى تفرض وجودها وتزعم أنها التى تدرك تلك الجزئيات، دون أن تكون هى واحدة منها. بمعنى أنه لما كانت «الذات» ليست انطباعًا جزئيًّا بين شتى الانطباعات، إذن فليست «الذات» موجودة بين المجودات.
توقف «باركلى»، ولكن «هيوم» مضى حتى وصل بالرأى إلى نتيجته، وهى أن «الذات» المزعومة وَهْمٌ لا وجود له.
بوذا فى الشرق وباركلى فى الغرب، كلاهما قد جعل الحقيقة ذاتية، فليس لشىء كائنًا ما كان وجود إلاَّ بمقدار إدراكنا الذاتى له، وبهذا فلا عالَم إلاّ ما تدركه ذات الإنسان، وهكذا تتبخر الحقائق المادية الصلبة فتصبح لا شىء سوى حالات عقلية ذاتية عند الإنسان المدرك، وأتباع بوذا فى الشرق وهيوم فى الغرب كلاهما قد انتزعا نفس النتيجة من نفس المقدمة ، والنتيجة هى أنه إذا لم يكن ثمة وجود لشىء إلاّ انطبعت به الذات، ثم إذا كانت الذات ليست من بين ما ننطبـع به، إذن فهى اسـم علـى غيـر مسمى، فلا موضـوع فى الخارج ولا ذات فى الداخل وكل ما هنالك هو انطباعات فرادى تتتابع واحدة فى إثر واحدة.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com