الشرق الفنان
(11)
يتحدث الدكتور زكى نجيب محمود حديثًا موجزًا عن كونفوشيوس، ولكنه يختار له عبارة يراها عميقة المغزى فيما نحن الآن بصدده. تقول عبارة: «لا موضع لإنسان فى المجتمع إلاَّ إذا درب نفسه أولاً على إدراك الجمال».
فإذا فهمنا «إدراك الجمال» على أنه ما يتم باللمسة المباشرة، ولا يقوم على تحليل وتعليل وحجة وبرهان، فهمنا مراد الحكيم بعبارته تلك.. ذلك أن علاقة الأبوة ــ التى هى عنده أساس كل علاقة اجتماعية سليمة ــ ليست مما تحتاج إلى شرح وتفسير؛ فالوالد يحس علاقته بولده، والولد يحس علاقته بوالده، إحساسًا مباشرًا.. وهكذا ينبغى أن يكون إحساس الفرد فى المجتمع السليم بسائر الأفراد ؛ فإذا كان الشعور القومى خيرًا، فهو إنما يستمد خيريته هذه من كونه شعورًا بين أبناء الوطن الواحد شديد الشبه بالشعور الذى يربط أفراد الأسرة الواحدة، أى أنه شعور لا يقيمه صاحبه على منفعة مرجوة، ولا على نظرية علمية مجردة. وإذن فهو شعور قائم على ادارك «جمالى» لا على إدراك منطقى نظرى.
هكذا كل العلاقات والآثار التى تقتضيها طبائع الأشياء التى يدركها الإنسان بفطرته دون ما حاجة إلى تحليل أو برهان أو اقناع، وليس هذا بحديث المفكر الغربى حين يحلل الشعور القومى أو طاعة الحاكم، الذى يجعل أساسه مبادئ نظرية مجردة عامة. ومثل هذا يقوله الفيلسوف الإنجليزى «لوك» والفرنسى «جان جاك روسو» عندما يتحدثان عن العقد الإجتماعى المفترض، وكيف نشأ وتطور.
الفرق بين الحالتين: الشرق، والغرب. هو الفرق بين النظريتين.
نظرة تنبئ عن الفطرة، وأخرى تلتمس المنطق العقلى والبرهان.
الأولى هى نظرة الفنان، والأخرى هى نظرة العالم.
مواجهة الحقيقة الوجودية مواجهة مباشرة، لا يتوسطها تحليل أو تدليل، هى لب الشرق وسمته فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود، لذلك كان الشرق أسرع قبل غيره فى إدراكه للألوهية، وفى إدراكه قبل غيره للرابطة التى بينه وبين الوجود من حوله، وفى هذه المواجهة المباشرة لحقيقة الوجودية ــ تلتقى شتى فروع الثقافة الشرقية، قاصيها ودانيها، فلا فرق فى هذه الخاصة بين اخناتون وبوذا وكونفوشيوس.
والمدار فى كل هذه الحالات هو اللمسة المباشرة بين الذات المُدرِكة، والحقيقة المُدرَكة ؛ وهى نفسها اللمسة المباشرة التى أدرك بها أنبياؤه وقديسوه ورهبانه ومتصوفوه ــ أدركوا بها حقيقة الوجود الخافية وراء الظواهر العابرة.
هذه اللمسة المباشرة بين الذات والموضوع، هى التى اتخذها الدكتور زكى نجيب محمود تعريفًا للنظرة الفنية إلى الحقيقة بالقياس إلى نظرة العلم ؛ وهذا التباين يظهر بين الفنان فى الشرق والفنان فى الغرب، رغم تعاملهما فى مجال واحد. فلا تجد نظرة المصور الصينى شبيهة كل الشبه بنظرة الفنان الغربى إلى الطبيعة.
يخرج المصور الغربى إلى الطبيعة مزودًا بأدواته، اللوحة والمنظر المراد تصويره ما ثلان أمامه، وما عليه سوى أن يجتزئ مما يراه جانبًا يثبته على اللوحة.
بينما يخرج المصور الشرقى إلى الطبيعة وليس معه شىء من أدوات التصوير ـ إنما يغرق نفسه فيما حوله حتى يصير جزءً منه، ليغمس نفسه فى تيار الكون.
وحينئذ يتاح له أن يشهد الطبيعة فى سياقها، وعندئذ تكون الصلة وثيقة مباشرة بين الرائى والمرئى بلا حائل، وكأنهما قد صارا شيئًا واحدًا، ولهذا تخرج صورة الفنان الصينى، والشرقى بعامة، وكأنها كلٌ واحدٌ متصل لا تمايز فيه بين جزء وجزء، يعكس المصور الغربى الذى يعنى بإبراز أجزاء الصورة بكيانه المستقل وأبعاده الثلاثة.
المعول عليه فى الفن الشرق اندماج الفنان بذاته وبروحه فى الحقائق الواقعة، واندماجها بحيث تؤكد جميعها ما بينها من صلة وبين الفنان فى حقيقة واحدة.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com