الشرق فنان
(10)
أول ما تلتقى مع ثقافة الصين فى صحبة الدكتور زكى نجيب محمود، تلتقى باللغة الصينية، منطوقة أو مكتوبة، فتجدها مثقلة بمضمونها الفنى، وما يدل على طابع الشرق كله.
واللغة الصينية رموز تشير إلى مسميات، وتكتب الكلمة على هيئه تصويرية تجمع عددًا من الخصائص الفردية المميزة للكلمة. وحين تنظر إلى الكلمة المكتوبة كأنك تنظر إلى مسماها، وكلمات هذه اللغة أقرب إلى الرسوم الدالة على الأعلام، منها إلى الأسماء المجردة الدالة على أجناس وألوان، ولذلك كانت هذه اللغة، فيما يحدث الدكتور محمود ــ أقرب للإشارة إلى جزيئات العالم المحسوس، منها إلى خواطر المتكلم.
«وما دامت اللغة وثيقة الصلة بعالم الجزيئات الخارجية المحسوسة، تحتم أن تجىء تلك اللغة وفيها كثرة من اللفظ تعادل كثرة تلك الجزيئات، ولو كتبت فلسفة بهذه اللغة، لجاءت الفلسفة وصفًا لمواقف جزئية فردية، كأنها الأمثلة يسوقها الفيلسوف ليوضح بها فكرة مجردة، إلاَّ أن الفكرة المجردة هنا لا يكون لها وجود، والوجود كله مقتصر على أمثلتها الجزئية التى يسوقها الفيلسوف مثلاً فى إثر مثل حتى يستوفى الفكرة التى يريد استفاءها.
ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أن الفكر لا يكون نظريًا بالمعنى المعروف فى العلوم النظرية، بل يكون حالات مفردات لايشترط لها ارتباط منطقى يصلها صلة المقدمات بنتائجها، بحيث يرتبط السابق منها باللاحق ارتباطًا منطقيًا يوجبه العقل النظرى ويحتمه، فيجوز لك أن تبدل وتغير من ترتيب الأمثلة الجزئية المتعينة التى يسوقها المفكر توضيحًا لوجة نظره، لأن ما يجمعها مما هو اشتراكها فى توضيح الفكرة المراد توضيحها، وليس هو تسلسها على النحو الذى يجعل الحلقة السابقة مقدمة تستتبع بالضرورة الحلقة التى تليها».
ويرى الدكتور زكى نجيب محمود الذى لا شك قد بذل جهودًا مضنيه ليلم بهذ اللغات المتنوعة، إلمامًا يسمح له بأن يجرى ما أجراه من استقطار وتحليل لكل من هذه اللغات. وهنا يرى أن ذلك بعينه يميز كتابات كونفوشيوس حكيم الصين، فإذا قرأت لهذا الحكيم تقرأ عبارات تنساب انسيابًا مرسلاً، حتى لكأنه يتحدث بما تقتضيه المناسبات، لا بما تحتمه فى تسلسه مبادىء المنطق الصورى، ولذلك تراه يتنقل بك من مثل إلى مثل، ومن حالة جزئية إلى حالة جزئية، لا يلتزم فى تتابع سياقة إلاَّ مجرى السليقة الفطرية فى انسياب الحديث، فلا تجد فى عباراته مصطلحًا خاصًا يحتاج إلى تعريف وتحديد كما يفعل أصحاب العقول العلمية، كما لا تجد فى تلك العبارات ترتيبًا منطقيًا كالذى تستدعيه إقامة البرهان فى بسط النظريات العلمية.
وتتميز الأمثلة الجزئية لهذه اللغة بما تحمله من صور روعى فيها أن يدركها الإنسان إدراكًا مباشرًا.
لذلك فلا تتوقع أن تجد فى أقوال كونفوشيوس حكيم الصين ــ تعميمات نظرية مجردة، بل تجد فى كتاباته طابع الأديب من مراعاته المضمون الفنى وتلك هى اللمسة الفنية التى إتخذها الدكتور زكى نجيب محمود طابعًا للتفكير الشرقى.. وخذ مثلاً. لو أراد كونفوشيوس الحديث عن السلام العالمى، فكيف ينقل ذلك المعنى إلى المتلقى ؟ « إنه لا يلجأ إلى نظريات السياسة والاجتماع، بل استمع إليه فى ذلك يقول:.. إنه إذا ما تهذبت حياة الإنسان الشخصية استقامت حياة الأسرة، وإذا ما استقامت حياة الأسرة اتسقت حياة الأمة، وإذا ما اتسقت حياة الأمة ساد السلام فى العالم ؛ فينبغى لنا ــ من الحاكم فنازلاً إلى سواد الناس ــ أن نجعل تهذيب الحياة الفردية الشخصية بمثابة الجذر أو الأساس ؛ فيستحيل على فروع الشجرة أو الطوابق العليا فى البناء أن يستقيم لها كيان إذا دبت الفوضى فى جذر الشجرة أو فى أساس البناء ؛ فلم تشهد الطبيعة كلها بعد شجرة استدق جذعها وأخذ منه النحول، ثم جاءت فروعها العليا سميكة ثقيلة ؛ وهذا هو ما يُسَمى « معرفة الأشياء من جذورها أو من أسسها »… وهكذا يسوق لك الحديث وكأنما هو يغترف من خبرات حياته الخاصة ومن مشاهداته الجزئية فى مجرى الحياة اليومية ؛ فهو لايلجأ إلى البرهان النظرى يدعم به صدق زعمه، بل يكتفى بمثل هذا التصوير الفنى لفكرته، وهو تصوير لا يسع القارئ إلاَّ أن يتقبله وكأنما هو منه إزاء البداهة التى لا سبيل إلى نقضها».
حين ينثر كونفوشيوس كلماته، تراها كأنها من عمل وصور فنان ينثر ألوانه على لوحة تصوير. والرابطة والأمر كذلك لن تكون رابطة منطقية، وإنما رابطة الإتساق والانسجام.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com