الشرق فنان
(9)
يقول الدكتور زكى نجيب محمود: «إن أول درس يعلمّه حكماء أسفار اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يتاح لهذا الدماغ الضعيف الذى تتعبه عملية حسابية صغيرة، أن يدرك هذا العالَم الفسيح المعقد الذى ليس دماغ الإنسان إلاّ ذرة عابرة فى أرجائه ؟ وليس معنى ذلك عند حكماء الهند أن العقل لا خير فيه، بل إن له لمكانة متواضعة، وهو يؤدى لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات. أما إذا حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللامتناهية فما أعجزه من أداة، فإزاء هذه الحقيقة الصامته التى تكمن وراء الظوهر كلها دعامةً لها، والتى تتجلى فى وعى الإنسان، لا بد للإنسان من وسيلة إدراكية أخرى غير هذه الحواس الظاهرة وغير هذا العقل المنطقى، ذلك أننا لا ندرك روح العالم بالتحصيل والدرس، ولا بالعبقرية الفذة وسعة الاطلاع فى الكتب، وإنما الوسيلة المثلى فى هذه الحالة هى نفسها وسيلة الطفل فى براءته، هى الإدراك الحدسى المباشر، أو هى البصيرة النافذة إلى جوهر الحق وصميمه بغير مقدمات ولا نتائج، وما البصيرة إلاّ بصر ينثنى إلى الداخل ويسد أبواب الحس الخارجى ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليشهد الإنسان حقيقة الوجود متمثلة فى ذات نفسه، ذلك جوهر النفس الإنسانية ليس هو الجسم ولا هو العقل، بل ليس هو الذات الفردية، وإنما هو الوجود العميق الصامت الكامن فى دخيلة أنفسنا، وذلك هو « أتمان » ـ كما يسمونه ـ أو هو روح العالم كله، هو القوة الواحدة التى هى فوق جميع القوى».
روح الثقافة الهندية بأسرها، تقوم على دمج الفرد فى الكون دمجًا يزيل الفواصل التى تميز الفرد فى محيطه.
لو أُريد الشقاء لفرد ؛ كتب عليه أن يعود مرة بعد مرة ( بالتناسخ ) إلى ولادة جديدة تجعل منه فردًا.. أى تبقيه على فرديته التى تحرمه من هذا الاندماج الذى هو النعيم الأبدى.
النعيم الأبدى، هو أن يذوب الفرد فى الوجود ذوبانًا لا يبقى منه من ذاته الفردية المتميزة أثرًا.. فعندئذ يعود الجزء إلى الكل الذى انفصل عنه حينًا من الدهر، فيندمج فيه، وفى هذا النعيم الأبدى.
وتلك فيما يرى الدكتور زكى، هى نظرة الفنان التى نظر بها الهندى إلى نفسه وإلى الوجود.
وبهذه الروح نفسها جاءت فلسفة الفيلسوف وعقيدة المتدين وفن الفنان. فالموسيقى الهندى شبيه بالفيلسوف الهندى، كلاهما يبدأ بالجزئى المحدود ليرسل روحه بعدئذ إلى الكن اللامحدود، ومن خلال الوشى والاستلهام يستوى له «الخَلْق الموسيقى» إن جاز التعبير ـ حاملاً إلى نفس السامع شحنة من التأثير، يمكن القول بأنها ترتفع بالروح إلى ما يشبه الاتحاد الصوفى بكائن عميق عظيم ساكن.
وهكذا فى فن التصوير الهندى ؛ فهو لا يحاول تصوير الأشياء أو محاكاتها، بل يستهدف تصوير العواطف، لا يسعى إلى مطابقة الأصل، بل الإيماء إليه، توجهه بصيرة الفنان، ليثير فى نفس المشاهد وجدانه الدينى وعاطفته الجمالية، كيما تنزاح عنه السدود التى تحول بينه وبين الحقيقة الكونية العليا.
وأخيرًا، وليس آخرًا، فإنه إذا كان الشاعر هو اللسان المعبر لقومه، فها هو شاعرهم «أكبر» يقول:
إنه ليضحكنى أن أسمع أن السمك فى الماء ظمآن إنكم لا ترون «الحق» فى دياركم، فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم.
هاكم الحقيقة! اذهبوا أين شئتم…
فإذا لم تجدوا أرواحكم، أمسى العالم زائفًا فى أعينكم…
إلى أى الشطئان أنت سابح يا قلبى ؟ ليس قبلك من مسافر، كلا ولا أمامك من طريق…
ليس هنالك جسم ولا عقل، فأين تلتمس من يطفئ غلة روحك؟
إنك لن تجد شيئًا فى الخلاء
فتذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت
تقف بقدميك هنالك على موطئ ثابت
فكر فى الأمر مليًّا يا قلبى ّ فلا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر
اطرد صنوف الوهم عن نفسك
وثَبِّتْ نظرك فى حقيقة ذاتك
تنكشف أمامك عينيك حقيقة الوجود!
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com