الشرق فنان
(7)
رأى المصرى زرقة السماء وصفاء الصحراء، رآهما فى بلاده نورًا على نور، فأقام الأهرامات الشامخة، ونحت التماثيل واقتطع المسلات الشامخة من قلب الصخور. همه أن يصل بين النورين، بينما تجيش نفسه بما يلمسه فى الطبيعة من حوله من صمت رهيب ؛ فكان أن تكلم معبرًا عما يجيش فى نفسه «تكلم بلغة الحجر الأصم تماثيل تراها على اختلاف عصورها ذات طابع واحد، هو طابع الجلال الهادى الرزين الرصين ؛ تراها فتحسبها الرهبان قد ملأتهم السكينة والرضا وترى على شفاهها بسمات خفيفات هامسات فيها معنى الإشفاق على من ألهته دنيا العوابر والزوائل هذا الإيمان الصابر، هذا الجلال الصامت، هو المصرى من أول عصوره حتى اليوم، وإنما اكتسب المصرى القديم فنه من عقيدته، ثم استمد حكمته من فنه، وكلها جوانب من نفسه نشأت حين لمس الوجود لمسة الروحانى الفنان.
«وانظر إلى التصوير المصرى على جدران المعابد، انظر إليه نظرة الفاحص المتأمل، واعجب أن يمضى على هذا التصوير ثلاثون قرنًا أو يزيد، وإذا بالفنان المعاصر فنان القرن العشرين يعود القهقرى مع القرون، ليجعل مبادئ فن التصوير كما عرفه المصريون هى المبادئ التى يثور بها على الفن الأوربى التقليدى، ثم يجعلها هى نفسها المبادئ التى يحتذيها ويسير فى فنه الحديث على نهجها.
«ذلك أن المصور المصرى كان يرسم شخوصه مسطوحة ذات بعدين، ويهمل البعد الثالث الذى من شأنه أن يظلل الرسوم ليجسمها فتصبح على اللوحة كما هى قائمة فى عالم الواقع ؛ أقول إن الفنان المصرى كان يهمل البعد الثالث، لا جهلاً منه بقواعد المنظور فى الرسم، بل إدراكًا منه بجوهر الفن الأصيل، وهو ألا يحاكى الفنان بفنه موجودات الطبيعة الخارجية محاكاة تجعل اللوحة الفنية صورة تطابق الواقع كما يعرفه الإنسان بعقله، لا كما ينطبع ذلك الواقع على حواسه ؛ فأنت إذ ترى رجلاً قائمًا أمامك على مقربة أو على مبعدة، إنما ترى منه فى حقيقة الأمر مسطحًا ملونًا، فإذا قدرت لنفسك بعد ذلك أنه جسم ذو أبعاد ثلاثة : طول وعرض وعمق، فإنما تضيف العمق من خبرة أخرى غير الخبرة المباشرة التى تنطبع على شبكية العين عند الرؤية ؛ ولقد أراد الفنان المصرى أن يكون أمينًا فى فنه مخلصًا لحواسه، فأثبت على لوحاته رسوم الأشياء وفق إدراك الحس لها لا وفق حساب العقل؛ وهاهم أولاء قادة الفن فى عصرنا الراهن «بيكاسو» و«جوجان» و«ماتيس» وغيرهم، يثورون على التقليد الذى كان قائمًا فى الفن الغربى منذ النهضة الأوروبية فى القرن السادس عشر، ويستهلون الفن القديم فى مبادئه، لأنه أقرب إلى الخلق الفنى بمعناه الصحيح».
طبيعى ألا يعبأ الفنان المصرى وهو يضع على اللوحة الواحدة عدة رسومات لعدة أشياء، بعضها قريب منه، وبعضها بعيد عنه طبيعى والأمر كذلك ألاَّ يعبأ كثيرًا بقواعد المنظور من حيث تكبير القريب وتصغير البعيد. بل كان يضع كل أشكاله بحجم واحد رغم تفاوتها، وألاَّ يعبأ أيضًا برسم المحيط الذى تكون الأشياء موضوعة فيه. لذلك خلت رسوماته من مناظر الطبيعة، دون ما جهل بقواعد المنظور، بل كان على وعى تام بحريته كفنان فى وضع أشيائه، وبأنه لا إلزام عليه بأن يجعل الصورة التى يرسمها تنطق بالمحاكاة الدقيقة للطبيعة.
مثال آخر لهذه النظرة الفنية لدى المصرى القديم، يستقيه من رسم الفنان أشخاصه، فالوجه جانبى ولكن العين مرسومة كاملة على الجانب الظاهر، والصدر متجه كله إلى الأمام، غير ملتفت إلى جانب مع اتجاه الوجه، ثم القدمان متجهتان إلى جانب، على غير اتساق بينهما وبين اتجاه الصدر، ولا مانع عنده من أن يجعل الفخدين ظاهرين كأنهما عاريتان، مع أنه يلفهما بالرداء، فهو يضع الثوب على الجسم، ثم يتجاهل وجوده ليظهر ما تحته، وهكذا وهكذا من ألوان الخروج على قواعد المنظور، لماذا ؟ لا لأن الفنان جاهل بتلك القواعد، بدليل أنه يراعيها كلما أراد ذلك، إنما هو يصدر عن مبدأ فنى أصيل، وهو أن يبرز «الشكل» (الفورم) على أكمل وجوهه، فخير شكل يبدو عليه الوجه هو الجانب، فيرسمه ملتفتًا إلى جانب، وخير شكل تبدو عليه العين هو أن تكون شاخصة كلها إلى أمام، وهكذا فى باقى الأعضاء. ليس الأصل عنده أن يحاكى الواقع كما هو، بل أن يوضح الأشكال فى أجمل صورها. فليس الفنان كاميرا تنقل صماء بكماء عن الطبيعة، تنقلها كما هى، بل الفنان إنسان خلاق يتصرف فى خَلْقه الفنى بسبب ذوقه ونظرته. وكان لديه من سلامة الذوق والنظرة ما استطاع به أن يقع على المبادئ الفنية، التى جاء الفن المعاصر فالتقط أطراف الخيوط من جديد لتستأنف السير فى طريقٍ شقها الفنان المصرى الأول.
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com