من تراب الطريق (1104)

من تراب الطريق (1104)
رجائى عطية

رجائى عطية

7:53 ص, الأثنين, 24 مايو 21

الشرق فنان

(2)

خذ مثلاً لتتعرف الفرق بين النظرة العلمية، والنظرة الفنية: عالم فلكى، وفنان، وتمثلهما ينظران إلى السماء ونجومها فى ليلة صافية. لا شك أن رؤيتها البصرية واحدة، ولكنك تسمع الفلكى يقول : لا تحسب هذا النجم اللامع الذى تراه الآن، قائمًا فى المكان الذى تراه أنت فيه، بل إن ما تراه مجرد « حزمة ضوئية » لنجم غادر مكانه هذا منذ زمن طويل، ولكن هذه الحزمة الضوئية لا تصل إلى أعيننا إلاَّ بعد أن تقطع مسافة من مكانها إلينا يستغرق قطعها عديدًا من الأعوام، حتى وصلتنا اللمعة الأخيرة، ولكن عندما تصلنا يكون النجم قد غادر موقعه هذا من سنين.

أما الفنان، فلا شأن له بشىء من هذا كله، فالنجم عنده هو هذا الكائن الحاضر المشهود الذى يراه، ويملأ منه عينيه، وينبض له شعوره، وتتحرك عواطفه، وتهتز له جوانحه.

فى النظرة العلمية التى التزمها الفلكى تُرد الظاهرة إلى قانونها الذى يطويها مع ما يطوى أشباهها.

أما نظرة الفنان، فهى عنده النظرة الجمالية، ولا يرد الظاهرة إلى سواها. فهى عنده المبدأ والمنتهى، وعليها تتشكل إبداعات الرسامين والشعراء والأدباء والمحبين.

لذلك كانت النظرة العلمية دائما بحاجة إلى تعليل.

أما النظرة الفنية فليست بحاجة إلى تعليل.

وهذا أيضًا هو الفارق بين النافع، والجميل.

فمع التسليم بأن النفع والجمال قد يجتمعان، إلاّ أن الفروق تتضح فى قياس وتبرير النفع، بينما لا يحتاج الجمال إلى البحث له عن أغراض.

جمال الشىء الجميل ؛ قوامه دائمًا نظام داخلى فى الشىء تتسق به أجزاؤه وعناصره ؛ جمال قصيدة الشعر نسق باطنى ينتظم أطرافها ودقائقها، فهى ليست مجرد أبيات تلو أبيات إلاّ إذا كانت منظومة فى اتساق تتسق به أبياتها وإيقاعها.. وكذلك فى الرسم والنحت والموسيقى.

القوانين العلمية فيها ولا شك نسق ونظام، مداره استدلال النتيجة مـن مقدماتها.. وفى هذا يختلف النسق والنظام بين كل من كينونة الفن والجمال، وكينونة العلــم وقوانينه.

ومن المؤكد أن هذا الفارق هو الذى يمنع ترجمة العمل الجمالى، فمهما أوتى المترجم من إلمام بلغتى الترجمة، فإنه لن يستطيع أن ينتقل الجمال من النص المترجم، إلى ترجمته.. تتأبى اللوح والتماثيل على النقل وتتأبى الأشعار على الترجمة، فإذا أجريت فإنها فى غالب الظن تنقل المعنى، ولكن ليس بمستطاع أن تنقل الشحنة الفنية الجمالية.

ولهذا. صار من المسلّمات استحالة ترجمة القرآن، إلاَّ أن تكون ترجمة لمعانيه. فالمعمار الموسيقى والبلاغة، من المحال على أى مترجم أن ينقلها بذات الجمال إلى الترجمة.. مهما كانت عبقرية المترجم، وإلمامه باللغتين.

نعم الله على الإنسان لا تُعد ولا تُحصى، حسبنا قوله سبحانه وتعالى فيها : « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » ( الإسراء 70 ). وقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معًا : فبالنظرة العلمية يدرك كنه الأشياء وينتفع بها، وبالنظرة الفنية ينعم بما فى الكون من جمال ومحاسن وإبداع.

وبديهى أن تتفاوت نسبة هذه وتلك لدى كل فرد، وهذه سنة الخلق الذى أرادنا أن نكون مختلفين.

على أن الاختلافات الفردية، لا تمنع من استخلاص الطابع العام لإقليم أو لزمن أو لمجموعة من الناس.

وهنا يتضح ما يريده الدكتور زكى نجيب محمود ؛ أن يبين أنه تغلب على الشرق بعامة « نظرة الفنان » ولا يعنى هذا ـ بداهة ـ أنه خالٍ من النظرة العلمية، وأن يغلب على الغرب النظرة العلمية، ولا يعنى هذا ـ بداهة ـ خلو الغرب من النظرة الفنية.

ومع هذا يقر بأن هذا التقسيم ينطوى على مجازفة خطيرة. فالشرق ليس بلدًا واحدًا، ولا هو بقعة واحدة، وإنما هو عالم واسع، بعيد الأطراف والأرجاء، تتخلله وتفصل بين بقعه بحار ومحيطات وأنهار وصحارى ووديان، وليس المناخ فيها كلها متشابه، ولا الناس من طراز واحد. فلا يوجد تشابه ظاهر بين أهل الشرق الأوسط، وأهل الهند، وأهل الصين، وأهل اليابان. ومن ثم فإن ما يسمى إجمالاً « بالمدنية الشرقية » فيه كثير من المجاز، فهذه المدنية بناءٌ مركب كثير التفصيلات متشعب الأصـول والفروع معقد العناصر. فكيف إذن يستقيم هذا التعميم؟

يقول الواقع إنه برغم هذا الاختلاف البعيد، فإن للشرق ـ بلا شك ـ لونًا ثقافيّا واحدًا تتحد فيه كل أقطاره. وهو الروحانية.

هذه الروحانية تبدو للمتأمل ملحوظة فى الدين، وملحوظة أيضًا فى الفن . فكيف كان ذلك؟

www. ragai2009.com

rattia2@hotmail.com