يصنع ذكاء البشر أوعية وأكسية لاستيعاب أحلامهم وأشواقهم ومحاكاتهم وغرورهم كجماعات وأفراد ليزدادوا لا ذكاءً على ذكاء وإنما ثراءً وشهرة بهما يتحقق النفوذ فى أى جماعة.. فما فى تكوين مدنيتنا الحالية هو قشرة سطحية ضخمة من الذكاء تستخدم إتقان المتقنين فى جذب ملايين الأغبياء وأشباه الأغبياء.. وهذا أخطاره هائلة لا تكاد تحصر على الحمقى وعلـى الأذكيـاء معا.. حيث لا مهرب الآن للأذكياء إلا الانتقال من أغبياء أو أشباه أغبياء إلى أمثالهم فى جهة أخرى وحرب أخرى تشمل العالم كله، تقتلع تلك القشرة السطحية الضخمة التى اعتدنا على تسميتها حضارتنا الحاضرة العظيمة.. إذ ستحرق الحرب أول ما تحرق غزل تلك القلّة الذكية، ليرى الحمقى وأشباههم أنفسهم على حقيقتهم مرة أخرى، إن بقيت منهم بقية!!
وذلك الميل البشرى الغريزى إلى الكسوة بلباس أو ظاهر أو قشرة أكثر طلاوة وبريقا، يبدو متقدما فى عيوننا أو متحضرا طبقا لتعبيرنا الحالى.. هذا الميل الذى يحشد ما يستطيعه ليسترعى الأنظار والإعجاب، ويلفت الأعين ويصرفها صرفًا ضريرًا عن التركيز على البشاعات الموجودة والمستشرية نتيجة للغفلة والتخلف السائدين بين الناس.. هذا الواقع المرّ شىء معروف يتردد ذكره وأثره من آلاف السنين فيما نسميه بالحضارات القديمة أو السالفة أو نسميه باللياقة والقيمة بالنسبة للأفراد! فمخلفات الحضارات القديمة هى الباقى من آثار حكامها وخاصتها، لأن بقايا عامتها وسوادها زالت واندثرت بزوالها غير مأسوف عليها.. فتاريخ الجماعات البشرية بطبيعته يخفى آليًا من الصورة ذكر المجهولين.. وهم أغلب الخلق الذين لم يلفتوا إليهم نظر المؤرخين والتاريخ لحقارة ما كانوا عليه وما كان معهم.. هذا وقد عاد علم الحفريات إلى الاهتمام فى عصرنا بهذه المخلفات فى محاولاته معرفة تاريخ الجماعات مما تركته فعلا مما لا يزال باقيا.. فغلبة الفطنة والذكاء تعيشان الآن بكل قوتهما وحجمهما كما كانتا فى الماضى أو أشد فى حال المجاميع أو فى حال الأفراد.. ويستحيل أن يحجب وجودهما المحسوس ودائما ما نسميه مظاهر أو معالم الحضارة والتحضر..لأن هذه المعالم لم تمنع ولا يمكن أن تمنع سواد الناس بما معهم من قلة الفطنة والعناية والإتقان والذكاء، لا يمكن أن تمنعهم من استخدام واستعمال تلك المعالم الحضارية بسعة وترحيب وانتشار.. وهو أمر يلاحظ فى كل مكان ووقت ومناسبة، وملحوظ معه أيضا استخدام أو استعمال تلك المعالم فى أغراضها هى، وليس فى الأغراض العامة التى أقيمت من أجلها.. إذ تقود المصالح الشخصية دائما إلى ركوب أكتاف المصلحة العامة وتحويلها إلى وجهتها.. فالمجتمعات تبنى عادةً وابتداءً بقصد عام لوجه المصلحة العامة إلاّ فى الجماعات المنحلة، لكن سرعان ما يلتوى القصد فى الاستعمال تحت ضغوط المصالح الخاصة المتضاربة وينتهى إلى تحقيق مصلحة لطائفة خاصة تعرف بفطنتها وحيلتها توجيه الطريق إليها وحدها.. ووراء كل ذلك يسرى تمكن فردية الفرد من السيطرة على قيادة الأمور إلى ما تحب وتتمنى وتفضل لنفسها هى لا لغيرها.. يصاحب ذلك مقدرة بعض الناس على استغلال هذا الميل الأكثر شيوعًا لدى البشر.. هذا الميل الذى يدفعهم دفعًا إلى الحرص على الظهور بأكثر مما فيهم ولديهم فى الحقيقة والواقع، والانتفاع بغرور المغرور وكبرياء المتكبر وحماقة الأحمق وغباء الغبى فى ركوبه إلى غاياته الشخصية أو الطائفية