آفة العناد، وطريق الحق
(3)
والمزية التى تميز بها البشر عن سواهم هى نمو الإرادة والاختيار والوعى.. وهذه فتحت أمام الآدمى الباب إلى انتظار حياة طيبة أخرى بعد مفارقة هذه الدنيا نتيجة امتداد الإرادة والاختيار والنية والتوقع والأمل فى مستقبل غير محدود أو السعى من أجله، ولا يقطعه الموت حتمًا قولاً بأن الروح لا تموت.. وتلك هى معالمها الباقية والمجردة من المادة كلية.. ولكن هل الروح هى نفس الحياة للآدمـى خاصة، أم هى حياة كل حىّ آدمى وغير آدمى.. أم هى جوهر حيـاة الإنسـان إذا فارقهـا يكون الموت لا محالة.. وفى القرآن المجيد : «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ». (الإسراء 85)
ويبدو أن حياتنا فى حاضرها وماضيها كتلة مركبة بالغة التعقيد والدقة من عناصر مادية وغير مادية مفروض أن تعمل معا فى مقادير وأنشــطة تتفاعـــل ويؤثر بعضها فى بعض.. متغيرة تغييرًا مستمرًا تبعاً للظروف خلال سنى النمو وسنى الشيخوخة. هذا التركيب الذى نعيشه كما عاشه أسلافنا من قبل ــ قد تحدد فى وعينا وعقلنا وحافظتنا وسلوكنا تحديدًا لازم فكرة كل منا عن حياته وحياة الآخرين وبقية الأحياء فى هذه الدنيا، بحيث يستحيل معه على الآدمى أن يتصور بقدر من الوضوح والتفصيل أى فكرة أخرى لحياة مغايرة تمامًا مستقبلاً غير مبنية على دنيانا هذه.. إذ يشوب هذه الفكرة بالضرورة قدر هائل من الإبهام والغموض قد يستره فى عين عامة الناس، أمارات وأوصاف الوعود والهناءة وترويعات العذاب والعقاب حملا لسواد الناس على استقامة الفكر والنوايا والسلوك وعلى الإقلاع والابتعاد عن الغرور والبغى والفساد والشرور.. فليس فى هذه أو تلك أى وضوح كافٍ وافٍ لحياة الناس فى الآخرة.. وهذا ليس قصورًا بل هو حكمة بالغة وضرورة ليس منها بد.. لأن حياتنا التى ألفناها طوال العصور والدهور واقع نحياه بحذافيره الآن كما كانت الحياة واقعًا بالنسبة لمن سبقونا، بينما الحياة الآخرة لا يمكن أن تخرج بالنسبة للأحياء الآن عن كونها مستقبلا محضًا لا يصبح واقعًا إلاّ مع البعث وبعد مفارقتهم لواقعهم.. وهذا الواقع المستور الذى ينتظر البعث ويرجوه أو لا يرجوه، لا يكفى لبيان أوضاعه ومعالمه على حقيقتها، مهما كان جمال الوعود والآمال، ومهما يكن أكيدًا إزعاج المصير السيئ ومخاوفه البشعة بالغة ما بلغت.
وربط حياتنا على هذه الأرض بالحياة الآخرة على أساس المكافأة وأساس العقاب مجد فى تقويم نفوس ونوايا وسلوك الآدميين فى هذه الدنيا.. وجدواه المحسوسة الملموسة إنما تتحقق هنا عاجلة معجلة وتسهم بالحتم فى ترقية البشر ونجاح نوعهم أفرادًا وجماعات، لكن هذا الربط لا يكشف عن نمو أو ترقٍ فى الآخرة فى مواهب البشر وملكاتهم التى أنعم الله تعالى بها عليهم. كما لا يكشف وحده عن إسهام الحياة الأخرى فى نمونا وترقينا.. ولعل ذلك بسبب أن دنيا البشر فى حاجة دائمة إلى موالاة العناية والالتفات.. إذ هى دار اختبار وامتحان لما نقابله، وأن إعفاءهم من ذلك الامتحان فى الآخرة جزء هام من ثوابهم ومكافأتهم.. نعود فنقول إن حياة كل حىّ هنا ـــ هى دائمًا حصيلة تتزايد وتتناقص، من تتابع لا ينقطع لمتواليات ومتغيرات خلال العمر، فهل هذه الحصيلة تستأنف تتابعها فى الآخرة ؟ هذا سؤال ليس معنا أية إجابة عليه. إذ ليس من السهل القول بأن حياة كل حىّ ستفارق جوهرها المتتابع فى الآخرة لكى تثبت على وضع واحد قابل للتحسين طوع المشيئة إلى ما نشتهيه إن كنا فى النعيم أو على عكس ذلك إن كان مصيرنا إلى الجحيم.. وربما وراء وجود الجنس البشرى أفرادا وجماعات غاية كونية تسوقه وتقوده فـى طريقها، وقد يفهمها ويعقلها وعى وعقل الآدمى العادى فى يوم ويسعى بلا تردد فى تحقيقها مؤيدًا منحازا لها حريصًا عليها بكل ما فيه ومعه، لأنها تصير غاية كل إنسان فى كل بقعة وكل وقت يقرأ فى رايتها لماذا وُجد ولماذا تجمع ولماذا يجب أن يستمر وجوده وتجمعه دائمًا فى هذا الكون العظيم.. وعندئذ لن يبقى أثر ما فى عادات ومآرب وسلوك البشر للتناحر على الارتزاق والموارد أو داع لهذا للكفاح الموجود من أجل البقاء فى عالم لا يكفى مطالب الحياة المعقولة لجميع الناس نتيجة لانتشار الأنانية الغريزية والعناد والجهل والإذعان فى كل مكان وزمان. ونحن حتى اليوم.
لا نكف عن اغتيال وتجاهل مصالح بعضنا البعض بسبب تخبطنا الذى لا نهاية له فى فهم نواميس الكون وغاياته ونستعيض عنها فى أكثر الأحيان بأعرافنا القاصرة وشرائعنا المليئة بالتحيز والظلم والقهر وقلة الجدوى والفائدة !!
www. ragai2009.com
rattia2@hotmail.com