الآدمى بين النضج والضمور !
(7)
الجماعات المتحضرة فى الماضى والحاضر لا تقوى على صيانة نفسها صيانة جادة من البلايا التى تصادفها.. لأن طريقها فيه من كثرة الأخلاط الملازمة لتكوينها حديثًا وقديمًا ما لا قبل لها بالنجاة منه دائمًا.. لكونها معرضة دائمًا للأخطار والمفاجآت.. ومن عجائبها سرعة النسيان لما مضى وما يمضى من المتاعب والمشقات والنوائب.. والتلهف على مجىء ما تظنه وترجوه مما يمكنها من نسيان ما أشقاها ويساعدها على الدخول إلى ما تتمناه فى قابلها.. هذا المزيج من الأخلاط هو الذى أبقى ويبقى فى كل جماعة فى كل وقت، قلائل لا يفارقهم التشاؤم الذى يصاحبهم حتى نهاية العمر !
فالآدميون دائمًا متفقون مختلفون فى ذات الوقت والمكان والموضوع والغاية.. بسبب ذات كل منهم التى ينفرد بها فيما يسميه قراره أو رأيه أو نظره أو ميله أو طبعه أو عادات الجماعة التى ينتمى إليها.. أحس بها وعْيه أو لم يحس !
وقد جمعت الغريزة الجنسية بين البشر والحيوان فى القربى.. فلا تحكمها لدى البشر إلاّ الأديان والأخلاق والضمائر.. وهذه فى أيامنا لا تكاد تبالى بها الحرية الفردية أو الجماعية لدى المتحضرين وغير المتحضرين. فغشى نوع طاغٍ مقيت من الإباحية وعدم المبالاة وبات يهدد تهديدًا خطيرًا ومزعجًا تماسك الأسر.. ولم يعد أكثر الناس يسهر على قيمة التماسك أو يلتفت إلى خطر إهماله أو يهتم بتجنبه.. حتى فى أهله وجيرته.. فقد امتدت هذه الحرية الحمقاء من المتعلم إلى غير المتعلم، ومن العالم المتعمق فى العلوم والمعارف الوضعية إلى الجاهل والعامى السطحى، ففقد الآدميون اليوم قيمة تزيد على ثلاثة أرباع ما يتعلمونه الآن فى مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم ومعاملهم ومراصدهم.. وربما باتوا أقرب إلى الهلاك من آبائهم وأجدادهم. لأنهم لكثرة ما يظنون أنهم يعرفون قد لا يراجعون ما ذكروه فأضاعوه برغم أن هذا حاصل لكل منهم فى أغلب الأحوال.. فنحن الآن سكارى بما نظن أننا عرفناه وباشرناه وما سنعرفه ونباشره.. وهو وهم صرف.. لأنه التفات للتافه الجزئى الصغير الضئيل عن الأساس الجسيم المكين.. بفعل هذا الغرور قد التوت بنا الطريق واعوجت ومالت إلى العناية والافتخار بالقشور والأحلام والأوهام التى ساقتنا إلى المآسى والنكبات نتيجة ابتعاد الأساس إلى حد الضياع.. نسينا هذا الأساس فى تعقبنا للتفاهات التى لا حد لها ولا آخر فى إغراقنا فى الهزل وإبعادنا عن الجد وإسراعنا لأول بادرة إلى الكآبة واليأس !!
وهذا التفات أَحْول من عموم البشر.. يصرفهم عن العناية الجادة بحياة كل منهم اليوم، ويغرق أغلبيتهم فى الاستجابة لآلاف آلاف الأمور المغرية أو الأمور المؤذية العرضية التافهة.. هذه العوارض التى تدر مكاسب رهيبة من المال على فئات ماكرة تقوم هنا وهناك بإتقان تجهيزها وعرضها نهاراً أو ليلاً بغير انقطاع فى الدور أو المحال العامة أو الملاهى أو المعارض أو المكاتب أو الصحف أو النوادى أو المؤتمرات أو دور النشر أو الراديو أو شاشات التليفزيون الأرضية والفضائية.
هذا الالتفات الأَحْول العجيب الذى أصبح عامًا فى زماننا.. قد شوَّه إلى حد غير مسبوق نظرة الآدمى إلى أعماق نفسه، وزيّف عليه رؤيته دون أن يتنبه إلى أهمية هذه الأعماق.. فنسى بصورة تكاد تكون تامة اختلاف مراتب إدراكه لوجود تلك الأعماق من حيث الأهمية والتأثير فى حياة كل منا كآدمى عاقل مدرك يقظ يشعر أنه إنسان يعايش أناسى أمثاله.. ليس فقط عند الحاجة فى لحظة الاحتياج أو الرغبـة أو الشهـوة أو الخـوف أو الفزع، بل ينمى لديـه فى الدرجة الأولى الشعور بمسئوليته التى لا يجوز أن يهملها أو يتصور إهمالها عن نجاح حياته كإنسان حى عاقل راشد.. ملتزم بجادة طريق واضح جلى ومستقيم، ينتهجه فى رحلة حياته من بدايتها بما يحمله من ماضيه المتواضع إلى نهايتها بما يأمل تسطيره فى صفحتها قبل أن يفارقها بكل ما انتهى إليه !
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com