وقد يقال ـ فيما طرحه الأستاذ العقاد من آراء التقليديين، إنّ عصر السرعة لم يدع للناس صبرًا على النظم وعلى «المصطلحات» الفنية فى التعبير عن الشعور والعاطفة، بيد أن عصر السرعة لا يحول ـ فيما لاحظ ـ بين أبناء العصر والجلوس ثلاث ساعات متواليات لمشاهدة المنظر أو القصة أو الفرجة «الفنية» فى عالم التصوير والرسم والتمثيل، أو فى الاستماع إلى أدوار الغناء أو الإذاعات «العاطفية» وغير العاطفية، أو قراءة الصحف وقراءة القصص، بل والملاحم القصصية التى تملأ المئات أو الألوف من الصفحات، بينما هو أحوج إلى الوقت للاستماع للقصيد المنظوم.
وظنى ـ شخصيًّا ـ أن هذا قياس مع الفارق، فلكل نظر أو فرجة أو قراءة أو استماع ـ دوافعه الخاصة فى كل غرض من الأغراض التى أشار إليها الأستاذ العقاد، فقد تكون الرغبة فى استقصاء الأخبار غالبة على مشاهدة أو سماع أو قراءة الفنون بما فيها الشعر، فيقبل الراغب على قراءة الصحف أو الاستماع إلى الإذاعات المسموعة أو المرئية، ويصدف عمّا سواها بما فى ذلك الشعر الذى يستوجب لدى القارئ أو السامع حالة خاصة واستعدادًا خاصًا يحتاج للتهيؤ له ويحول عصر السرعة دون منحه الفرصة لهذا التهيؤ، وقس على ذلك باقى الضروب التى ناقشها الأستاذ العقاد وقاس عليها لنفى تأثير عصر السرعة على نفاد الصبر للإقبال على اللغة المنظومة ومصلحاتها الفنية، فذلك قياس مع الفارق، وظنى أن عصر السرعة له أثر ـ قل أو كثر ـ فى نفاد الصبر على الشعر.
وبالتأكيد فإنه لم يكن مطروحًا على الأستاذ العقاد حين كتب هذا المقال سنة 1962، ما صار إليه حال التعليم الآن، وتآكل المعرفة باللغة العربية لسوء التعليم، بل وهجرانها من بعض بنيها والإقبال ولو من باب الاستعراض على التحدث أو الكتابة باللغات الأجنبية، بينما فى زمن الأستاذ العقاد كنا ندرس العربية بجدية فى كل مراحل التعليم الإبتدائى والثانوى، وكنا ندرس أمهات الشعر وقواعده خلال الدراسة الثانوية، بدءًا بالعصر الجاهلى، ثم بصدر الإسلام وعهد النبوة والراشدين، ثم خلال الدولة الأموية، ثم فى عهد الدولة العباسية، وكنا نُلزَم بحفظ بعض هذه الأشعار، فضلاً عن الدراسة الوافية لفنون الشعر والبيان، الملزمين بحفظه، أو المعفيين من حفظه اكتفاءً بدراسته. بل وقد كان منا من يُقبل على محاولة التعرف على علم العروض ببحوره وموازينه وأسبابه وأوتاده، وعلى علم القافية بأنواعها ومواضع استخدامها والمباح وغير المباح فيها.
كل هذا قد انقرض الآن للأسف، وظنى أن هذا الانقراض وإهمال اللغة العربية، حتى فى أسماء المحلات والمتاجر والفنادق، أحد أهم الأسباب التى أدت إلى هبوط مستـوى الشعر.
دليلى أيضًا على ذلك، أن بعض المجلات الأدبية، والملاحق الأدبية للصحف الكبرى، قد جرت أخيرًا على التحلى بالشعر، وصار مألوفًا أن نرى فيها أبياتًا ومقطوعات منسوبة إلى الشعر، وفيما عدا المجلات الأدبية المتخصصة التى يرأس تحريرها ويساهم فيها أدباء وشعراء متخصصون يحسنون اختيار ما ينشر والاستيثاق من جدارته بأن ينسب إلى الشعر، إلاَّ أن معظم ما ينشر بالصحف الكبرى وملاحقها لا علاقة له بالشعر، ولا يصدق على قائليه وصف الشاعر صغيرًا كان أو كبيرًا، فهذه الأبيات أو المقطوعات فاقدة لكل عناصر الشعر، سواء فى التعبير عن العاطفة، أو المعنى، أو موازين اشعر وموسيقاه، ومعظمها فى الواقع «لغو وغثاء» لا يعرف قائلوه أبسط قواعد اللغة والبيان، فضلاً عن مقومات الشعر وعناصره، ولا شك أن هذا الغثاء المتتالى نشر مفهومًا رديئًا ومضلّلاً للشعر، وأفسد الأذواق، حتى بتنا نرى من يتجاهلون أعلام الشعر شوقى وحافظ وصلاح عبد الصبور وحجازى وغيرهم، ويصدرون إمّعات لا دراية ولا علاقة لهم بالشعر، مانحين كلاًّ منهم لقب «الشاعر الكبير» !!!
أما أثر الدعوة إلى «تحرير» الشعر من الوزن والقافية، فليس لها صدى ـ فيما أورد الأستاذ العقاد ـ يجاوز أسماع «شعرائها» المحدودين، ولم يعد هذا فى نظرى مطابقًا لما بتنا نراه، لقد كان الأستاذ العقاد وهو رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ينافح أمثال صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى، وهما شاعران مشهود لهما، بينما قفز الآن إلى الساحة من لا دراية لهم ولا معرفة بالشعر، فضلاً عن افتقادهم للموهبة وضحالة علمهم وثقافتهم، ولذلك فظنى أن ما طرأ بعد جيل الأستاذ العقاد، يستوجب وقفة لازمة، لأن ما بتنا نراه يجاوز «التحرر» من الوزن والقافية، إلى إهدار كل مقومات الشعر وعناصره، وبالتالى فلم يعد هناك محل لاطمئنان الأستاذ العقاد آنذاك من أنه ليس فى وسع هؤلاء «المتحررين» أن يحاربوا الشعر القديم بتحريره كما يقولون من الوزن والقافية واللوازم الموسيقية.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com