أثرت بمقالى الأسبق (دعوة لتقنين القتل – 16/8/2021)، قضية اغتيال الوعى الجمعى الجمالى المصري، والتداعيات الدرامية لاستمرار الموجات الحالية لاختراقه وخلخلته، وعلميا مثلث الوعى يكمن فى التعليم والإعلام والدين، وهى أدوات التأثير والتخاطب مع حواس وفكر وضمير الإنسان. فالتعليم يشكل أسس التكوين المعرفى والبحثى كأرضيات لتكوين الشخصية ومنظورها للعمل والحياة لاحقا، والإعلام (بمفهوم واسع كأخطر منصة للثقافة والفن والتواصل الاجتماعي) ينقل للمجتمع صورا ومفاهيم ومعانى كقوى ناعمة، لرؤى مختلفة تصل للتلاعب بالعقول وتوجيه الآراء، والدين كمنظومة ثقافة إيمانية تشكلها سلوكيات وممارسات معينة، من خلال نصوص وقيم وأخلاق، وأماكن مقدسة، ونبوءات، ومنظمات تربط الإنسان بالعناصر الخارقة للطبيعة أو الروحانية والإيمانية.
فى حالة توازن ونضج واعتدال أضلاع المثلث، يمكن القول بوجود وعى إنسانى سوى وناضج، قادر على فهم واستيعاب ظروفه المجتمعية والحياتية وقضاياه المعاصرة، فيصبح عنصرا فعالا ونشطا بتنمية المجتمع. أما فى حالة خلل مثلث الوعى أو تآكل أضلاعه، فلا مناص من مصادفة إنسان مريض، جاهل، مُسير، متلاعب به، غير متفاعل مع قضايا وطنه أو مُدرك لأزماته، فينقلب لعنصر معوق للتنمية وناحت لكافة مكوناتها مهما بلغ تميزها.
للأسف فمنظومة الوعى الجمالى المصرى بالعقود الأخيرة، أصابها فيروس لا يقل خطرا عن أثر فيروس كورونا على الحياة ذاتها! فإذا اتفقنا أن ضمانات هذا الوعى هى الحرية والإبداع والأصالة والثقافة والقيم الموضوعية، فإن استدعاء هذه الضمانات فيما يجرى الآن داخله، يكشف ويثبت مدى تخلخل وخلل أضلاع مثلث الوعى المصري، تجاه قضايا التنمية وتحديات الوجود وطموح المستقبل.
فضلع التعليم المصرى (بعافية)! سواء على مستوى المنشأة التعليمية (المدرسة والجامعة والمعهد) أو المعلم أو الطالب أو المنهج والمحتوى العلمى ذاته، بما فى ذلك مفهوم ناتج التعليم والطالب المصرى كمنتج نهائي! فمازلنا بلد شهادات وليس خبرات. فاجأت الصين العالم منذ ٥ سنوات بسياسة علمية وتعليمية، لاستقطاب أنبه وأقوى العقول والخبرات العلمية والتعليمية العالمية، ومنحها فرصا وعروضا خيالية لتبدع على أرض الصين، التى تحول إبداعهم وأبحاثهم لمنتجات تغزو بها العالم! أعادت الصين (الشيوعية) تنظيم صفوفها العلمية والتعليمية، لتقتنص من أمريكا وأوروبا علماءهم وتبنى Free Zone Education للعلم والتعليم والإبداع، بمنهجيات علمية وتعليمية حقيقية وباستثمارات تضاهى الاستثمارات الصناعية والعقارية.
مصريا؛ فأغلب الحلول الحقيقية للمشاكل والقضايا من قديم الزمن، تأتى من الحاكم وتبنيه لرؤية أو إطار عام يمثل منهجا، يُعمل عليه ويفرخ مشروعات وأعمالا وحلولا تؤدى لبداية التغيير. عرفت مصر ذلك بعهد الرئيس عبد الفتاح السيسى برؤيته للعاصمة الإدارية، والنهضة العمرانية والبنية التحتية، وتطوير التكوين والأداء العسكرى لمصر، بل ودعوته إلى بناء الإنسان المصرى (التى ناشدت فى مقال سابق أن تُفعل بتأسيس الهيئة العامة لبناء الإنسان المصري، طبقا لقانون الهيئات العامة لسنة ٢٠٠٣)، كل المحاور والرؤى التى يضطلع بها فكر الرئيس ويتحدث عنها، تكون جرسا وتنبيها ودعوة حازمة للتدخل بالتصحيح لما تجاوز والتوجيه لمن ضل والتطوير لما أسن.. أى أوان التغيير.
نجحت قضية الوعى الجمعى الجمالى بالصعود بجدول تحديات أعمال الرئيس، المثقل بهموم الوطن وقضاياه الوجودية وتحدياته المستمرة والمتربصين به. فاجأ الرئيس جمهور التلفاز والفضائيات بمداخلة تلفزيونية لأحد البرامج، بإعلان دعمه لتجديد مناهج الوعى الروحى والفكرى والثقافى والفني. أعلن سيادته دعمه للإبداع المتضمن تصحيح المفاهيم، بما فيه الوعى الديني. هذه المداخلة لا تقل قوة وتأثيرا عن إعلان الحرب! الحرب على مغتالى الوعى الجمعى الجمالى المصري. فى تقديرى وضعت هذه المداخلة إطارا عاما لرؤية تجديد الوعى الجمالى المصرى للمرحلة القادمة! فهى تدعم شباب الكتاب والمفكرين، تدعم الموضوعية والوسطية والاعتدال، تدعم العطاء الفكرى والفنى الهادف الباني، تدعم حرية الإبداع بلا شطط، تدعم التوجه لإنقاذ الوعى الجمالى المصري.
فى تقديرى أن مداخلة الرئيس برؤيته لتجديد الوعى ودعم الإبداع وشباب المفكرين والكتاب، من أفضل إنجازاته فى 2021، كل ما نرجوه معاصرتنا واقعيا إنتاجا فنيا وثقافيا وفكريا واستنارة روحية، لا تقل عن صورة الجغرافيا المصرية الجديدة فى عيون العالم! هذا وقت الشباب وخروج الأفكار والاختراعات والمؤلفات والمناهج من الأضابير، وقت تفعيل وتنشيط كل وسائط الإبداع بمصر والتنقيب عن المواهب الحقيقية بالأرياف والصعيد، لتقديم أبنودى جديد وأم كلثوم أروع ونجيب محفوظ أجدد وزكى نجيب محمود أعمق، وهنرى بركات أبدع، وعلى إسماعيل أرقي، وغيرهم من منارات مصرية أنارت الوعى الجمعى المصري. هذا وقت استعادة واستنبات عمالقة ثقافة وفن وفكر مصر بالخمسينيات والستينيات والسبعينيات.
مداخلة الرئيس مشروع كبير لا يقل عن التخطيط العمرانى الرائع للقاهرة. بعدد 1/2/2021 نشرت مقال (من كبارى الأرض لجسور العقل)، وكانت مناجاة لصانع القرار لتبنى خطة ورؤية لبناء جسور للعقل المصري، ليس فقط على مستوى الإعلان ولكن على مستوى تبنى الدولة لمنهجية تستدرك ما يحاك فى الظلام، بأيدٍ معلومة ومجهولة، لإفساد العقل والوعى الجمعى المصري. إعلان الرئيس لدعمه لتجديد الوعى والإبداع، سيكون كجهاز كشف الكذب أمام المتنطعين ومدعين الفكر وشلل السبوبة وكهنة الفن والتدين!
الوعى الجمالى المصرى وصل لمرحلة تدنٍ فى الصورة والكلمة واللحن والورق والرأي، يجعلنا نحتاج مساطر قياس الجودة والأصالة، لرقيبة المصنفات الفنية اعتدال ممتاز، والأديب عبد المنعم الصاوي، والمعمارى حسن فتحي، ورائد الإعلام عبد القادر حاتم، وأعجوبة الثقافة ثروت عكاشة، والموسيقى محمد عبد الوهاب، والقانونى السنهوري، والتشكيلى صلاح طاهر، والكاتب عباس العقاد، وغيرهم.. نحن نحتاج مفرزة من العقول الأمينة الموضوعية المحايدة المبدعة – وهم كُثر تحت رماد الجهل والمهرجانات والسفسطة – التى تحيل رؤية ودعم الرئيس للإبداع وتجديد الوعي، لواقع ملموس لا يلوث بالمحسوبيات والشلل والضغوط والمجاملات.
اللعب بالعقول أروج بضاعة، سواء بتعليمها أو إعلامها أو تديينها، ودعوة الرئيس تحدٍ سافر وجاد للوعى الجمعي، لمن بقى على دين الأصالة والإبداع والحرية والموضوعية. أثق بأن الوعى الجمعى الجمالى المصري، بدأ فى سباق خطر وحرج مع رؤية الحاكم .. فلأول مرة ينطلق الدعم بهذه القوة والفهم والإيمان بحتمية إنقاذ المصرى اليوم!
ولعله خير.. فإن غدا ناظره لقريب!
* محامى وكاتب مصرى
bakriway@gmail.com