نظمت مدينة ووشي في شرق الصين احتفالاً بشطب بيانات سكانها مع انتهاء “صفر كوفيد” ، إذ تم شطب مليار نقطة بيانات من منصات الحوسبة السحابية لديها، لكنها مقابل هذا باتت محرومة من 40 خدمة رقمية، بحسب وكالة بلومبرج.
كانت حكومة المدينة قد جمعت خلال الجائحة كميات هائلة من بيانات سكانها وعددهم 7.5 مليون إنسان، التزاماً بقواعد سياسة “صفر كوفيد” التي انتهجتها الصين. حين انتهى العمل بهذه السياسة، لم تعد هناك حاجة لهذه المعلومات الحساسة، التي تضم أسماء مواطنيها وأرقام بطاقاتهم الشخصية وأرقام هواتفهم وعناوينهم وسجلات صحتهم الشخصية.
انتهاء “صفر كوفيد”
وجرت مراسم الاحتفال بالاستعانة بشاشة كبيرة في أحد مراكز البيانات التي تديرها المدينة لعرض شريطاً يظهر عليه تقدم عملية محو البيانات. حين بلغت نسبة التقدم 100% ظهرت على الشاشة عبارة “انتهى إتلاف البيانات”. عرضت المدينة مقطع فيديو عن اكتمال هذه العملية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوباً برسالة نصها “لا تقلق من فضلك، لقد أتلفناها!”.
اتخذت شنغهاي، التي تبعد تحو 150 كيلومتراً إلى الشرق من ووشي، قراراً مغايراً. فقد أعلنت في يوليو أنها “ستحدّث” نظام الرمز الصحي الذي اعتمدته خلال الجائحة، لتحوله إلى نظام دائم في المدينة وأنها ستستخدم البيانات التي يضمها كدعامة لنظام سيساهم في تعميق إتاحة الوسائل الرقمية لسكانها، البالغ عددهم 25 مليوناً، من حيث زيارة الأطباء والتنقل في وسائل المواصلات العامة أو ارتياد المناطق السياحية.
بل إنها نظمت مسابقة لسكانها كي يقترحوا طرقاً مبتكرةً لدمج هذا النظام في الحياة اليومية في المدينة. شملت المقترحات استخدامه لتنظيم الدور في المستشفيات ولضمان أن أماكن انتظار السيارات المخصصة للمعاقين لن يستخدمها من سواهم، حسب تقرير من صحيفة “بيبلز دايلي” الحكومية.
مساوئ مختلفة
كان لكل نهج مساوئه. فقد كانت ووشي تعتمد على البيانات التي كانت تجمعها لتقديم نطاق واسع من الخدمات المتعلقة بالجائحة، بما فيها فحوص الكشف عن فيروس كورونا وتتبع استيراد الأطعمة المجمدة وإصدار شهادات لمركبات الشحن. بعد احتفال ووشي بعملية محو البيانات، توقفت المدينة عن تقديم أكثر من 40 خدمة رقمية كانت تقدمها أثناء الجائحة.
في شنغهاي، اعتبر منتقدو قرار المدينة بتعديل النظام الصحي وسيلةً لتحويل إجراءات احتواء حالة طارئة تتعلق بالصحة العامة إلى أداة للسيطرة على سكانها. حذّر بعض السكان في حوار عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أن هذه الوسيلة قد تتيح للحكومة والشركات قدرات أكبر للاطلاع على معلومات حساسة عن مواطنيهم.
كتب أحد المستخدمين عبر “ويبو” ، وهو تطبيق صيني للتواصل الاجتماعي: “يمكنهم متابعة كل تحركاتك في أي مكان وفي أي وقت”. اعتبره آخر تحولاً إلى “مدينة كما في 1984″، مشيراً إلى رواية جورج أورويل.
خارج البلاد، اعتبر كثيرون نظام الصين لتتبع أعداد من تلقوا اللقاح المضاد لفيروس كورونا والمصابين به رمزاً لسيطرة بكين المركزية الخانقة على شعب قوامه 1.4 مليار إنسان، كانوا مضطرين لإبراز رموز خضراء على شاشات هواتفهم تؤكد أنهم غير مصابين كشرط لمشاركتهم في كثير من جوانب الحياة اليومية.
لكن نظام الصحة كان متعدد الطبقات، إذ وضعه عدد محدود من شركات التقنية ثم بات معتمداً على مستوى البلاد والمقاطعات والمدن، بل حتى المباني.
على نحو مشابه، حين ألغت الصين العمل بالقيود التي فرضتها لمكافحة فيروس كورونا في وقت سابق من هذا العام، تركت الحكومة المركزية حرية شبه مطلقة للحكومات المحلية في اختيار الخطوات التالية. قال توم نانليست، المحلل الأول في”تريفيوم” ، وهي شركة استشارات مقرها بكين: “لا تتضح فعلاً كيفية تخزين البيانات أو حمايتها، ولا توجد وسيلة مركزية لإتلافها جميعاً”.
تغير السياسات والمواقف
قال هوانغ غيجون، وهو خبير في الإعلام الرقمي في جامعة شيان جياوتونغ-ليفربول استبين مواقف العامة تجاه ذلك نظام الصحة، إن عامة الناس رأوه في البداية على أنه وسيلة لتحديد هوية المرضى المصابين بفيروس كورونا ولتوفير موارد الرعاية الصحية لهم.
قال غيجون إن كثيرين اعتبروا تتبع البيانات ضرورياً وليس إيجابياً فحسب، إذ اعتادوا على البرامج، التي استضافها تطبيقا “وي تشات” التابع لشركة “تينسنت هولدينغز” و”علي باي” من “مجموعة علي بابا القابضة”. بدأ نظام الصحة في مناطق مثل مقاطعة هاينان يشمل خدمات أخرى، منها النقل العام وقسائم المتاجر والمطاعم المعفاة من الضرائب.
تغيرت سياسات الصين ومعها مواقف العامة في التعامل مع متحول أوميكرون القابل للانتشار بشكل أسرع، الذي بدأ يسبب أضراراً جمة في أواخر 2021 ومطلع 2022. بات لون الرمز الذي يظهر على شاشات الهواتف أقل أهمية بعدما بدأ المسؤولون يلزمون سكان مجمع أو ضاحية أو مدينة بأكملها بالبقاء في مساكنهم.
كان غياب التحكم المركزي يتسبب في تصدع النظام بشكل متزايد. فلم تكن الرموز الصحية على المستوى الوطني مقبولة في أغلب المدن، بل إن التنقل داخل مقاطعة واحدة كان يتطلب رموزاً صحية محلية أخرى، وفقاً لفان ليانغ، وهو أستاذ مساعد للإعلام في جامعة ديوك كونشان درس فاعلية سياسة البرنامج.
كان السكان أيضاً يحتاجون لرموز خضراء من شركات الاتصالات الكبرى الثلاث في البلاد كي يتمكنوا من التنقل، وكان ممكناً لأي من هذه الرموز أن يتحول ويصبح أحمر إن تنقل الشخص عبر مناطق عالية الخطورة من حيث تفشي المرض.
التحكم في البيانات
تنامى انعدام الثقة بين مناطق المؤسسات التي تتنافس في إصدار الرموز الصحية. قال فان ليانغ: “احتاجت الحكومات المحلية لحماية نفسها وأرادت استخدام نظام محلي كي تتمكن من التحكم بالبيانات وبمن له حق التنقل”. في الوقت نفسه، وجدت تلك الحكومات هذه القواعد مفيدة لأسباب بعيدة عن الصحة العامة. قال: “أصبح الأمر أداة فاعلة جداً، ولأن إدارة المجتمع هي إحدى أهم أولويات الحكومات المحلية”.
زادت رموز الصحة باضطراد مخاوف بشأن الإزعاج والأمان وإساءة الاستخدام، فقد اضطر بعض الآباء والأمهات لإبراز رموز الصحة الخضراء لمدارس أطفالهم، كما رفضت بعض الفنادق استقبال سياح لم تكن لديهم رموز صحة، بل إن بعض العاملين فقدوا وظائفهم بسبب سجلات إصابة سابقة بالفيروس.
في يونيو 2022، عوقب مسؤولون في جنغجو، في مقاطعة خنان في وسط الصين، لأنهم حولوا رموز آلاف من المحتجين إلى اللون الأحمر ليحدوا من قدرتهم على التنقل بحرية. بعد بضعة أشهر، ادعى قراصنة أنهم سرقوا بيانات نظام الصحة الخاصة بما يصل إلى مليار مواطن صيني من قاعدة بيانات تابعة لشرطة شنغهاي.
تخلت الصين في النهاية عن سياسة “صفر كوفيد” بعد احتجاجات تاريخية في أواخر العام الماضي، وأنهت العمل بنظام الرمز الصحي على أساس يومي. وقالت شركات الاتصالات الصينية في ديسمبر إنها ستمحو البيانات من أنظمة الرموز المطلوبة للتنقل بين المناطق.
في فبراير، أوقفت مقاطعة غواندونغ العمل بنظام الصحة المحلي وأزالت بيانات الصحة لديها. واقترح هو تشينغجونغ، وهو نائب في الهيئة التشريعية الوطنية في الصين، قواعد إرشادية على مستوى البلاد في مارس الماضي، للتخلص من البيانات بشكل سليم وضمان إيقاف العمل بالأنظمة. لكن خبراء قالوا إنه لا توجد جهود مركزية بعد لتنفيذ ذلك.
مشكلات أخرى
أحد جوانب المشكلة هي أن هذا النظام تطلب أن تخزن حكومات محلية وشركات تقنية ومنظمات أخرى البيانات في أنظمتها الخاصة. وكانت إحدى المشكلات الأخرى هي اعتياد المواطنين والحكومات المحلية على استخدام الرموز في تطبيقات لا ترتبط بفيروس كوفيد.
قال هايتشنغ يو، أستاذ الإعلام الرقمي والتواصل في الصين في معهد ملبورن الملكي للتقنية: “ابتكر نظام الصحة طريقة رائعة للسيطرة على الناس… بالنسبة للبيانات، لم تكن هناك أبداً أي سياسة مفتوحة متاحة للجميع بشأن كيفية إدارتها”.
كانت للمناطق المختلفة حرية اختيار النهج الذي تريد أن تسلكه، وقرر عدد محدود من المناطق اتباع نهج مدينة ووشي في محو البيانات. في بكين، كما في شنغهاي، حُدِّث نظام الصحة المحلي لدعم المدينة والحكومة والخدمات العامة مثل الضمان الاجتماعي. في سيشوان، سيُضاف مزيد من خدمات المدينة إلى المنصة، التي لا تدعم بعد طلبات محو البيانات الشخصية. أما في فوجيان، فقد ذكرت وسائل الإعلام المحلية أنه لا توجد خطط لتعليق العمل بنظام الصحة المحلي. يرى نانليست، من شركة “تريفيوم” أن بعض الحكومات المحلية كان لديها أسباب محددة للاحتفاظ بالبيانات، فيما بدا بعضها منساقاً. قال نانليست: “تتمثل إحدى المشكلات الرئيسية في أن الموضوع منسي. لقد توقفنا عن استخدامها بشكل ما، لكن لم يكن هناك من يدير العملية، لا أحد يهتم بها لكن مجرد وجودها يعرضها للمخاطر”.