لا أعرف هل تعرفون الأستاذ محمود المراغى؟
معيار المقال الاقتصادى عندى هو مدى اقترابه أو ابتعاده عن أسلوب محمود المراغى، فكتابات هذا الراحل العظيم هى وحدة قياس الكتابة الاقتصادية، الحقيقة أنه كلما قرأت جريدة “المال” بحثت عن توقيع الأستاذ محمود المراغى، فهو أكيد هناك فى زاوية ما أو مقال ما، يا ربى أين ذهب اسم الرجل؟
أكثر ما كان يرهقنى فى مواد الدراسة بكلية الإعلام قسم الصحافة هو كتاب الاقتصاد، شيء ما كان سخيفا جدا يمطر صفحات هذا الكتاب، وأسوأ ما تصادفه هو مادة الإحصاء على أهميتها ومركزيتها داخل الدراسات الإعلامية، فقد كانت عصية تمامًا أمامى، كنت الثانى على الدفعة منذ العام الأول حتى تورطت فى العمل الصحفى اليومى فاكتفيت (كان قرارى فى الحقيقة) بدرجة جيد، فارتحت من رغبة التفوق فى الاقتصاد والإحصاء، لكنهما ظلّا بالنسبة لى موضعًا للتحدى، ليس فى فهم هذه المعضلات والنظريات بل فى القدرة على صياغة مشوقة وسلسة لهذه الخشونة المملة التى تغلف كتابات الاقتصاد، هنا ظهر محمود المراغى!
كنت أعمل فى مجلة “روزاليوسف” وقتها محررًا تحت التمرين (وهى فرصة لتسجيل حقيقة أننى صرت سكرتير تحرير هذه المجلة العريقة وأنا ما زلت تحت التمرين، وليس الأمر دليل تفوقى بل دليل رحابة تلك المدرسة بالمواهب وانفتاحها على جيل جديد مختلف) وهناك اقتربت من كتابات هذا الرجل الدمث المهذب جدا الرقيق للغاية، الذى لا يعلو صوته ولا يرتفع أبدًا رغم صخب مجلة تحترف الصراخ، أفسح لى مكانا بجوار مكتبه.. وقلبه، كان قد ترك رئاسة تحرير جريدة الأهالى منذ فترة وقد كان مؤسسها ثم تولى بعد ذلك بوقت رئاسة جريدة “العربى” الناصرية، وما بين الفترتين كان يدير مجلة عجيبة تصدرها فيما أتذكر وزارة الإسكان، وقد كان صديقًا مقربًا لوزيرها الأنجح حسب الله الكفراوى وعشت معه هذه المجلة التى كانت ورشة تعليم ساحرة فى كيفية تحويل أرقام الاقتصاد وتعقيداتها إلى قماش.
جرّب أن تضع إحصائيات وأرقاما فى موضوع صحفى، ثم ارجع برأسك للوراء وتأمل شكل الموضوع، فأجارك الله إذا لم تكن على هذه القدرة البارعة فى رشق الأرقام وفك المعضلات وتجميع المفككات وتفكيك المجمدات وترقيق الخشن وتسييل الغاز فلن تقدر على صياغة أفكار اقتصادية مهمة بشكل يعتقد قارئها أنها مهمة فعلا.
المشكلة أن موضوعات وقضايا الاقتصاد والمال مهمة للغاية لكن فهمها صعب للغاية، وهى شعبية جدًا إذا كنا نقيس الشعبية باهتمام الناس بها، وهى نخبوية جدا إن كنا نقيس بفهم الناس لها، هنا “المال” نجحت، هنا بالضبط عطاء تجربة حازم شريف المدهشة، أن تصدر صحيفة معنية بالمال والاقتصاد فى مصر وأن تستمر وأن تنجح وتصمد وتصعد وتؤثر وتتطور، فهذا مجد يستحق صاحبه الإشارة والإشادة والتحية والتهنئة.
صناعة الصحف فى مجتمعنا المصرى أشبه ببناء بيت فى منطقة زلازل.
إصدار صحيفة فى مصر مغامرة تصل إلى حدود المقامرة.
وأن تجعل من تلك الصحيفة مؤسسة مستقرة وناجحة فهذه معجزة حازم شريف اليومية.