هل يمكن فهم السياسة بحساب المثلثات والهندسة الفراغية للقوة؟ وهل لمصر الآن قوة بحساب مثلثات ورؤية هذه الهندسة؟ وهل يمكننا بالهندسة الفراغية ربط الحقائق واستنباط أفكار وعلاقات ونتائج، وتجسيم المصالح والمخاطر، لملء إدراكنا الفراغى لحقائق السياسة الدولية الجديدة، فتتنمى قدرتنا لرؤية زوايا القوة والمصالح والمخاطر، بفراغ العلاقات ثلاثية الأبعاد؟
قمة الوصول لتجسيم القوة السياسية لدولة أو لقائدها السياسى هى حالة انعدام استخدام القوة، وهى الحالة المُشكلة للرؤية السياسية للقيادة، والوعى الجمعى للشعب، وإدراك سياسى بالنخبة السياسية والثقافية. فمثلا قدرتنا على تجسيم قوة مصر الإيجابية الآن يشكلها؛ موقعها الجغرافى، إرثها الحضارى، مواردها الطبيعية وطقسها الفريد، قيادة سياسية خبيرة، قوة عسكرية رادعة وقوة ناعمة مُتربة، 100 مليون نسمة الشباب فيهم نسبة غالبة، وقوة اقتصادية تكافح لتتنفس وإطلاق تنميتها المحلية.
يقابل ذلك، تكاتف قوى سلبية عليها بصورة غير مسبوقة؛ كتداعيات سد النهضة ومعضلة الوجود، نزيف الجهاديين بسيناء، انفجار سكانى غير موظف، وعى جمعى مُخترق ونخبة سياسية وثقافية وإعلامية تعيش الضعف بأقوى صوره، قوة اقتصادية مرهقة غير مكتملة، أثرت بالقوة التعليمية والعلمية والتدريبية والتكنولوجية، لتكوين جيل يكون العمود الفقرى للقوة السياسية.
يساعدنا المثلث المصرى المباشر (الأرض/الشعب/الإدارة) لتصور علاقات زواياه، وتعزز الهندسة الفراغية تجسيم تفاعل القوتين الإيجابية والسلبية داخل مساحة المثلث، فتُمكنا استكمال إدراكنا الفراغى للعلاقات المباشرة لزواياه، وتعاملنا معهم كمنفصلين وربما أعداء! الحقيقة أن مصر تعيش حالات فعلية من (قوة) الجذب والشد والاحتكاك، فقانون نيوتن2 (إذا أثرت مجموعة قوى بجسم معيّن، فإنها تمنحه تسارعًا بمقدار هذه القوى، ويتناسب تناسبًا طرديًّا مع كتلة الجسم)، وهو ما استثمرته القيادة السياسية لإدارة قوة المثلث المصرى بنوعيها، وخرجت بتطبيق لقانون نيوتن١ (يبقى الجسم ساكنًا، أو يسير بمسار محدّد، ما لم تؤثّر فيه قوة خارجيّة تحرّكه، أو تغيّر من مسار حركته)!
فلأول مرة منذ 1952 حتى 2013، تخالف مصر سكونها الذاتى والتفلّك شرقًا وغربًا، لتنحت لنفسها موقعًا مستقلا بطريق القرن21. لأول مرة تتعامل الرؤية السياسية بوعى الهندسة الفراغية للقوة والقوة المضادة، فتجعلها تغير مسارها لفهم واستخدام قوتها، لتجعل تركيا وقطر يحققا ما تريد دون أمرهم بذلك! وتوقف نزيف غزة وتستفيد منه! وتكّون حلف الشام مع العراق والأردن لاستدامة تنميتها، وتتكامل مع السعودية بعهدها الجديد، وغير ذلك من مظاهر قوة مثلث الهرم فيها!
حسابات مثلثات القوة للقرن 21 وهندستها الفراغية، تتعامل مع حقائق جيوسياسية ومصالح دول وشعوب وتجنيب الخلافات الأيديولوجية والعقائدية وميراث الدم والانتقام وخلافات الرؤساء، ومن ذلك؛ تمكن بريطانيا، نضال أمريكا لاستعادة العظمى، توغل الصين، استئساد روسيا، وجود إسرائيل، تعمق الهند، أموال أوروبا، سوق أفريقيا، تجربة الإمارات بالتغيير والسعودية للتجديد، تربص إيران، فتونة تركيا.
الهندسة الفراغية لمثلث القوة، تجعلنا نجسم علاقات مصر الثلاثية لتنظيم واحتواء مصالح أو مخاطر أو تنمية، لنتمكن من تطوير الخطط وحسابات مخاطر هذه الحقائق! فمثلا لو مثلث جغرافى رأسه مصر وضلعه الأيمن إريتريا، جيبوتى، الصومال وضلعه الأيسر السودان، جنوب السودان وقاعدته كينيا، فستكون قوة الاحتواء وضغط نظام إثيوبيا فعالة، لتشمل قوة هذا المثلث التنمية والردع وتطويق سد النهضة، ورفض فخ ضربه! فالهندسة والحساب سيجعلنا ندرك الفراغات الناقصة، لنرى مشاهد المصالح ثلاثية الأبعاد بعيدًا عن ضرب السد، بمثلث مصر/السودان/الكونغو!
مثَّلث قوة مصر/ السعودية/ الإمارات؛ سيكون مفيد جدًا بدراستنا لتجربة الإمارات للتغيير، بإرثها نصيبًا كبيرًا من هونج كونج، بتحرير التجارة والتواصل بالنظام المالى والمصرفى العالمى وثقافة المواطنة لـ 200 جنسية، ومنهجية إقناع الدولة للمواطنين والمقيمين بتحويل الإمارات لنموذج عالمى يحافظون عليه وينموه، والخروج من الفكر البترولى وبدء تطبيع رسمى علنى توافقى مع إسرائيل. ورغم تذبذب الوتر الإماراتى المصرى مؤخرًا، تبقى علاقتهما جوهرية جدًا لفائدة الطرفين، وتحتاج رؤية بهندسة فراغية لاكتشاف وتنمية المصالح المشتركة بمفاوضات إثيوبيا، والعلاقة بزوايا المثلث مع السعودية!
تجربة السعودية للتجديد ثرية رغم حداثتها وجرأتها! فبعد عهود طويلة من استثمار الحرمين والبترول، أثمرت قوة اقتصادية عملاقة كانت ركيزة قوتها السياسية، فكتلتها البشرية محدودة وجغرافيا صعبة، ووهابية متشددة مُصدرة، تأتى الآن وتخرج من البرميل، لتبنى مجتمعًا حيويًا، وتحيى المواقع التراثية والأثرية، وتدخل عالم الترفيه باحتراف، وتدعم المرأة وتزيد الاستثمارات بالتعليم والتكنولوجيا، لتحقق تدريجيًا محاور القوة، فالكتلة البشرية مالم تكن متميزة نوعيًا، فلن تعتبر من طبقات القوة. فإذا تحررت السعودية من ربقة الوهابية، فلمصر تنقية مجاريها أيضًا استحسانًا. مثلث القوة هنا ينتظره رؤية لتنسيق علاقات زواياه بإسرائيل لتحجيم تطويقها، ولاستثماراته المشتركة بأفريقيا تكون مصر بوابتها، لتكوين سلة غذاء الشرق الأوسط والخليج.
المثلث المصرى / الصينى / الروسى، عميق المصالح سواء بالتقنية وطريق الحرير وتجديد شباب تجارة قناة السويس وتعمير محورها الجديد، أو التعاون الروسى العسكرى والتكنولوجى. وبرغم مصالح الصين بإثيوبيا وسد النهضة وتحفظ روسيا لاشتراك مصر بمناورات البحر الأسود، إلا أن الحساب والهندسة، تجعلنا نفهم المصالح وزوايا العلاقات بمستوى الدول وليس المواقف.
المثلث المصري/الأمريكي/البريطانى، يحتاج وقبول واقعية دولتها الجديدة، والتوافقية بين دور مصر بطريق الحرير، وبين استفادتها بصندوق البنى التحتية العالمى الهادف لاستبداله!
المثلث المصري/الليبي/السودانى، ينتظره حسم الداخل الليبى والتوافق السودانى، للانطلاق لمثلث تنمية رهيب يمتص طاقات واستثمارات ومشاريع، يوظف فيه المثلث المصري/الصينى.
الحقيقة قوة مصر حاليًا حقيقية، ويعوقها زخم التحالفات المضادة بعدما بلورت مصادر قوتها، بمثلثات افتراضية تتفعل ببطء وإصرار، فمصر خرجت من محاصرتها، لتطويق خصومها وغرمائها، عسكريًا ومعلوماتيًا وسياسيًا وتجاريًا.
ورغم كل ما تحققه مصر حاليًا، فمازال مؤشر الناتج المحلى الإجمالى GDP يحتاج لإنعاش حقيقى بأدوات مالية مصرفية عالمية لتحقيق رؤية 2030 ورفع GDP، حتى تتحقق قوة مثلثاتها الاقتصادية، فتنعكس بقوتها العلمية والتعليمية والتدريبية والتقنية، فتلحق وتدعم أكبر شريحة بسكانها الحاليين وأجيال المستقبل القريب، الاستفادة من حسابات مثلثاتها ويرون الهندسة الفراغية للمستقبل.
والله المستعان.
* محامى وكاتب مصرى
bakriway@gmail.com